التفسير الكبير - فخر الدين الرازي

مفاتيح الغيب - الرازي

 

‌‌تفسير مفاتيح الغيب 

الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم
 الحمد لله الذي وفقنا لأداء أفضل الطاعات، ووفقنا على كيفية اكتساب أكمل السعادات، وهدانا إلى قولنا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من كل المعاصي والمنكرات، بسم الله الرحمن الرحيم نشرع في أداء كل الخيرات والمأمورات، الحمد لله الذي له ما في السموات رب العالمين بحسب كل الذوات والصفات ،الرحمن الرحيم على أصحاب الحاجات وأرباب الضرورات، مالك يوم الدين في إيصال الأبرار إلى الدرجات، وإدخال الفجار في الدركات ، إياك نعبد وإياك نستعين في القيام أداء جملة التكليفات، اهدنا الصراط المستقيم بحسب كل أنواع الهدايات، صراط الذين أنعمت عليهم في كل الحالات والمقامات، غير المغضوب عليهم ولا الضالين من أهل الجهالات والضلالات.

والصلاة على محمد المؤيد بأفضل المعجزات والآيات، وعلى آله وصحبه بحسب تعاقب الآيات وسلم تسليما.

أما بعد: فهذا كتاب مشتمل على شرح بعض ما رزقنا الله تعالى من علوم‌‌ سورة الفاتحة، ونسأل الله العظيم أن يوفقنا لإتمامه، وأن يجعلنا في الدارين أهلا لإكرامه وإنعامه، إنه خير موفق ومعين، وبإسعاف الطالبين قمين، وهذا الكتاب مرتب على مقدمة وكتب.

سورة الفاتحة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)

 ‌‌مقدمة  

‌‌الفصل الأول في التنبيه على علوم هذه السورة على سبيل الإجمال

علوم الفاتحة اعلم أنه مر على لساني في بعض الأوقات أن هذه السورة الكريمة يمكن أن يستنبط من فوائدها ونفائسها عشرة آلاف مسألة، فاستبعد هذا بعض الحساد، وقوم من أهل الجهل والغي والعناد، وحملوا ذلك على ما ألفوه من أنفسهم من التعلقات الفارغة عن المعاني، والكلمات الخالية عن تحقيق المعاقد والمباني، فلما شرعت في تصنيف هذا الكتاب، قدمت هذه المقدمة لتصير كالتنبيه على أن ما ذكرناه أمر ممكن الحصول، قريب الوصول، فنقول وبالله التوفيق :

‌‌تفسير الاستعاذة

إن قولنا: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لا شك أن المراد منه الإستعاذة بالله من جميع المنهيات والمحظورات، ولا شك أن المنهيات إما أن تكون من باب/ الاعتقادات، أو من باب أعمال الجوارح، أما الاعتقادات فقد جاء في الخبر المشهور

قوله صلى الله عليه وسلم «ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة: كلهم في النار إلا فرقة واحدة»

وهذا يدل على أن الاثنتين والسبعين موصوفون بالعقائد الفاسدة، والمذاهب الباطلة، ثم إن ضلال كل واحدة من أولئك الفرق غير مختص بمسألة واحدة، بل هو حاصل في مسائل كثيرة من المباحث المتعلقة بذات الله تعالى، وبصفاته، وبأحكامه، وبأفعاله، وبأسمائه، وبمسائل الجبر، والقدر، والتعديل، والتجويز، والثواب، والمعاد، والوعد، والوعيد، والأسماء، والأحكام، والإمامة،
 فإذا وزعنا عدد الفرق الضالة- وهو الاثنتان والسبعون- على هذه المسائل الكثيرة بلغ العدد الحاصل مبلغا عظيما، وكل ذلك أنواع الضلالات الحاصلة في فرق الأمة، وأيضا فمن المشهور أن فرق الضلالات من الخارجين عن هذه الأمة يقربون من سبعمائة، فإذا ضمت أنواع ضلالاتهم إلى أنواع الضلالات الموجودة في فرق الأمة في جميع المسائل العقلية المتعلقة بالإلهيات، والمتعلقة بأحكام الذوات والصفات بلغ المجموع مبلغا عظيما في العدد،
ولا شك أن قولنا (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من جميع تلك الأنواع، والاستعاذة من الشيء لا تمكن إلا بعد معرفة المستعاذ منه، وإلا بعد معرفة كون ذلك الشيء باطلا وقبيحا،
فظهر بهذا الطريق أن قولنا: (أعوذ بالله) مشتمل على الألوف من المسائل الحقيقية اليقينية، وأما الأعمال الباطلة فهي عبارة عن كل ما ورد النهي عنه إما في القرآن، أو في الأخبار المتواترة، أو في أخبار الآحاد، أو في إجماع الأمة، أو في القياسات الصحيحة، ولا شك أن تلك المنهيات تزيد على الألوف، وقولنا (أعوذ بالله) متناول لجميعها وجملتها، فثبت بهذا الطريق أن قولنا (أعوذ بالله) مشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أزيد أو أقل من المسائل المهمة المعتبرة.

‌‌تفسير البسملة:

 وأما قوله جل جلاله: بسم الله الرحمن الرحيم ،
ففيه نوعان من البحث: النوع الأول: قد اشتهر عند العلماء أن لله تعالى ألفا وواحدا من الأسماء المقدسة المطهرة، وهي موجودة في الكتاب والسنة ولا شك أن البحث عن كل واحد من تلك الأسماء مسألة شريفة عالية،
وأيضا فالعلم بالاسم لا يحصل إلا إذا كان مسبوقا بالعلم بالمسمى، وفي البحث عن ثبوت تلك المسميات، وعن الدلائل الدالة على ثبوتها، وعن أجوبة الشبهات التي تذكر في نفيها مسائل كثيرة، ومجموعها يزيد على الألوف،
 النوع الثاني: من مباحث هذه الآية: أن الباء في قوله" بسم الله" باء الإلصاق، وهي متعلقة بفعل، والتقدير: باسم الله أشرع في أداء الطاعات، وهذا المعنى لا يصير ملخصا معلوما إلا بعد الوقوف على أقسام الطاعات، وهي العقائد الحقة والأعمال الصافية مع الدلائل والبينات، ومع الأجوبة عن الشبهات، وهذا المجموع ربما زاد على عشرة آلاف مسألة.

ومن اللطائف أن قوله (أعوذ بالله) إشارة إلى نفي ما لا ينبغي من العقائد والأعمال، وقوله "بسم الله "إشارة إلى ما ينبغي من الاعتقادات والعمليات، فقوله "بسم الله" لا يصير معلوما إلا بعد الوقوف على جميع العقائد الحقة، والأعمال الصافية، وهذا هو الترتيب الذي يشهد بصحته العقل الصحيح، والحق الصريح.

 

‌‌نعم الله تعالى التي لا تحصى

 أما قوله جل جلاله "الحمد لله " فاعلم أن الحمد إنما يكون حمدا على النعمة، والحمد على النعمة لا يمكن إلا بعد معرفة تلك النعمة، لكن أقسام نعم الله خارجة عن التحديد والإحصاء، كما قال تعالى: وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [إبراهيم: 34] ،
ولنتكلم في مثال واحد، وهو أن العاقل يجب أن يعتبر ذاته، وذلك لأنه مؤلف من نفس وبدن، ولا شك أن أدون الجزئين وأقلهما فضيلة ومنفعة هو البدن،
 ثم إن أصحاب التشريح وجدوا قريبا من خمسة آلاف نوع من المنافع والمصالح التي دبرها الله عز وجل بحكمته في تخليق بدن الإنسان، ثم إن من وقف على هذه الأصناف المذكورة في "كتب التشريح" عرف أن نسبة هذا القدر المعلوم المذكور إلى ما لم يعلم وما لم يذكر كالقطرة في البحر المحيط، ،وعند هذا يظهر أن معرفة أقسام حكمة الرحمن في خلق الإنسان تشتمل على عشرة آلاف مسألة أو أكثر، ثم إذا ضمت إلى هذه الجملة آثار حكم الله تعالى في تخليق العرش والكرسي وأطباق السموات، وأجرام النيرات من الثوابت والسيارات، وتخصيص كل واحد منها بقدر مخصوص ولون مخصوص وغير مخصوص، ثم يضم إليها آثار حكم الله تعالى في تخليق الأمهات

والمولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات وأصناف أقسامها وأحوالها- علم أن هذا المجموع مشتمل على ألف ألف مسألة أو أكثر أو أقل، ثم إنه تعالى نبه على أن أكثرها مخلوق لمنفعة الإنسان، كما قال تعالى:

وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض [الجاثية: 13] وحينئذ يظهر أن قوله جل جلاله: الحمد لله ،مشتمل على ألف ألف مسألة، أو أكثر أو أقل.

 ‌‌أنواع العالم وإمكان وجود عوالم أخرى

 وأما قوله جل جلاله : " رب العالمين "  فاعلم أن قوله  "رب" مضاف وقوله "العالمين "مضاف إليه، وإضافة الشيء إلى الشيء تمتنع معرفتها إلا بعد حصول العلم بالمتضايفين، فمن المحال حصول العلم بكونه تعالى ربا للعالمين إلا بعد معرفة رب والعالمين،
 ثم إن العالمين عبارة عن كل موجود سوى الله تعالى، وهي على ثلاثة أقسام: المتحيزات، والمفارقات، والصفات. 

أما المتحيزات فهي إما بسائط أو مركبات، و البسائط فهي الأفلاك والكواكب والأمهات، وأما المركبات فهي المواليد الثلاثة، واعلم أنه لم يقم دليل على أنه لا جسم إلا هذه الأقسام الثلاثة، وذلك لأنه ثبت بالدليل أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له، وثبت بالدليل أنه تعالى قادر على جميع الممكنات، فهو تعالى قادر على أن يخلق ألف ألف عالم خارج العالم،  بحيث يكون كل واحد من تلك العوالم أعظم وأجسم من هذا العالم، ويحصل في كل واحد منها مثل ما حصل في هذا العالم من العرش والكرسي والسموات والأرضين والشمس والقمر،
 ودلائل الفلاسفة في إثبات أن العالم واحد دلائل ضعيفة ركيكة مبنية على مقدمات واهية، قال أبو العلاء المعري: -

يا أيها الناس كم لله من فلك … تجري النجوم به والشمس والقمر

هين على الله ماضينا وغابرنا … فما لنا في نواحي غيره خطر

ومعلوم أن البحث عن هذه الأقسام التي ذكرناها للمتحيزات مشتمل على ألوف ألوف من المسائل، بل الإنسان لو ترك الكل وأراد أن يحيط علمه بعجائب المعادن المتولدة في أرحام الجبال من الفلزات والأحجار الصافية وأنواع الكباريت والزرانيخ والأملاح، وأن يعرف عجائب أحوال النبات مع ما فيها من الأزهار والأنوار والثمار، وعجائب أقسام الحيوانات من البهائم والوحوش والطيور والحشرات- لنفد عمره في أقل القليل من هذه المطالب، ولا ينتهي إلى غورها كما قال تعالى: ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله [لقمان: 27] وهي بأسرها وأجمعها داخلة تحت قوله رب العالمين.

 ‌‌رحمة الله تعالى بعباده لا تنحصر أنواعها

 وأما قوله تعالى: "الرحمن الرحيم"  فاعلم أن الرحمة عبارة عن التخليص من أنواع الآفات، وعن إيصال الخيرات إلى أصحاب الحاجات، أما التخليص عن أقسام الآفات فلا يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الآفات، وهي كثيرة لا يعلمها إلا الله تعالى، ومن شاء أن يقف على قليل منها فليطالع "كتب الطب" حتى يقف عقله على أقسام الأسقام التي يمكن تولدها في كل واحد من الأعضاء والأجزاء، ثم يتأمل في أنه تعالى كيف هدى عقول

الخلق إلى معرفة أقسام الأغذية والأدوية من المعادن والنبات والحيوان، فإنه إذا خاض في هذا الباب وجده بحرا لا ساحل له.

وقد حكى جالينوس أنه لما صنف كتابه في منافع أعضاء العين قال: بخلت على الناس بذكر حكمة الله تعالى في تخليق العصبين المجوفين ملتقيين على موضع واحد، فرأيت في النوم كأن ملكا نزل من السماء وقال يا جالينوس، إن إلهك يقول: لم بخلت على عبادي بذكر حكمتي؟
قال: فانتبهت فصنفت فيه كتابا، وقال أيضا: إن طحالي قد غلظ فعالجته بكل ما عرفت فلم ينفع، فرأيت في الهيكل كأن ملكا نزل من السماء وأمرني بفصد العرق الذي بين الخنصر والبنصر،
وأكثر علامات الطب في أوائلها تنتهي إلى أمثال هذه التنبيهات والإلهامات، فإذا وقف الإنسان على أمثال هذه المباحث عرف أن أقسام رحمة الله تعالى على عباده خارجة عن الضبط والإحصاء. 

‌‌أحوال الآخرة وتقسيمها إلى عقلية وسمعية

 وأما قوله تعالى: "مالك يوم الدين" ، فاعلم أن الإنسان كالمسافر في هذه الدنيا، وسنوه كالفراسخ، وشهوره كالأميال، وأنفاسه كالخطوات، ومقصده الوصول إلى عالم أخراه، لأن هناك يحصل الفوز بالباقيات الصالحات، فإذا شاهد في الطريق أنواع هذه العجائب في ملكوت الأرض والسموات فلينظر أنه كيف يكون عجائب حال عالم الآخرة في الغبطة والبهجة والسعادة،
 إذا عرفت هذه فنقول: قوله: مالك يوم الدين إشارة إلى مسائل المعاد والحشر والنشر، وهي قسمان: بعضها عقلية محضة، وبعضها سمعية:

 ‌‌أما العقلية المحضة

فكقولنا: هذا العالم يمكن تخريبه وإعدامه، ثم يمكن إعادته مرة أخرى، وإن هذا الإنسان بعد موته تمكن إعادته، وهذا الباب لا يتم إلا بالبحث عن حقيقة جوهر النفس، وكيفية أحوالها وصفاتها، وكيفية بقائها بعد البدن، وكيفية سعادتها وشقاوتها، وبيان قدرة الله عز وجل على إعادتها، وهذه المباحث لا تتم إلا بما يقرب من خمسمائة مسألة من المباحث الدقيقة العقلية.

 ‌‌وأما السمعيات

فهي على ثلاثة أقسام: أحدها: الأحوال التي توجد عند قيام القيامة، وتلك العلامات منها صغيرة، ومنها كبيرة وهي العلامات العشرة التي سنذكرها ونذكر أحوالها.
وثانيها: الأحوال التي توجد عند قيام القيامة، وهي كيفية النفخ في الصور، وموت الخلائق، وتخريب السموات والكواكب، وموت الروحانيين والجسمانيين.
وثالثها: الأحوال التي توجد بعد قيام القيامة وشرح أحوال أهل الموقف، وهي كثيرة يدخل فيها كيفية وقوف الخلق، وكيفية الأحوال التي يشاهدونها، وكيفية حضور الملائكة والأنبياء عليهم السلام، وكيفية الحساب، وكيفية وزن الأعمال، وذهاب فريق إلى الجنة وفريق إلى النار، وكيفية صفة أهل الجنة وصفة أهل النار، ومن هذا الباب شرح أحوال أهل الجنة وأهل النار بعد وصولهم إليها، وشرح الكلمات التي يذكرونها والأعمال التي يباشرونها، ولعل مجموع هذه المسائل العقلية والنقلية يبلغ الألوف من المسائل، وهي بأسرها داخلة تحت قوله مالك يوم الدين.

وأما قوله تعالى: " إياك نعبد وإياك نستعين" فاعلم أن العبادة عبارة عن الإتيان بالفعل المأمور به على

سبيل التعظيم للآمر ، فما لم يثبت بالدليل أن لهذا العالم إلها واحدا قادرا على مقدورات لا نهاية لها، عالما بمعلومات لا نهاية لها، غنيا عن كل الحاجات، فإنه أمر عباده ببعض الأشياء، ونهاهم عن بعضها، وأنه يجب على الخلائق طاعته والانقياد لتكاليفه- فإنه لا يمكن القيام بلوازم قوله تعالى: إياك نعبد ،
ثم إن بعد الفراغ من المقام المذكور لا بد من تفصيل أقسام تلك التكاليف، وبيان أنواع تلك الأوامر والنواهي، وجميع ما صنف في الدين من «كتب الفقه» يدخل فيه تكاليف الله، ثم كما يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب هذه الشريعة فكذلك يدخل فيه تكاليف الله تعالى بحسب الشرائع التي قد كان أنزلها الله تعالى على الأنبياء المتقدمين، وأيضا يدخل فيه الشرائع التي كلف الله بها ملائكته في السموات منذ خلق الملائكة وأمرهم بالاشتغال بالعبادات والطاعات، وأيضا «فكتب الفقه» مشتملة على شرح التكاليف المتوجهة في أعمال الجوارح، أما أقسام التكاليف الموجودة في أعمال القلوب فهي أكبر وأعظم وأجل، وهي التي تشتمل عليها «كتب الأخلاق» ، و «كتب السياسات» ، بحسب الملل المختلفة والأمم المتباينة، وإذا اعتبر الإنسان مجموع هذه المباحث وعلم أنها بأسرها داخلة تحت قوله تعالى: إياك نعبد علم حينئذ أن المسائل التي اشتملت هذه الآية عليها كالبحر المحيط الذي لا تصل العقول والأفكار إلا إلى القليل منها.

أما قوله جل جلاله:  " اهدنا الصراط المستقيم " فاعلم أنه عبارة عن طلب الهداية، ولتحصيل الهداية طريقان: أحدهما: طلب المعرفة بالدليل والحجة، والثاني: بتصفية الباطن والرياضة،

 أما طرق الاستدلال ،فإنها غير متناهية لأنها لا ذرة من ذرات العالم الأعلى والأسفل إلا وتلك الذرة شاهدة بكمال إلهيته، وبعزة عزته، وبجلال صمديته، كما قيل: -

وفي كل شيء له آية … تدل على أنه واحد

وتقريره: أن أجسام العالم متساوية في ماهية الجسمية، ومختلفة في الصفات، وهي الألوان والأمكنة والأحوال، ويستحيل أن يكون اختصاص كل جسم بصفته المعينة لأجل الجسمية أو لوازم الجسمية، وإلا لزم حصول الاستواء، فوجب أن يكون ذلك لتخصيص مخصص وتدبير مدبر، وذلك المخصص إن كان جسما عاد الكلام فيه، وإن لم يكن جسما فهو المطلوب،
ثم ذلك الموجود إن لم يكن حيا عالما قادرا، بل كان تأثيره بالفيض والطبع عاد الإلزام في وجوب الاستواء، وإن كان حيا عالما قادرا فهو المطلوب،
 إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من ذرات السموات والأرض شاهد صادق، ومخبر ناطق، بوجود الإله القادر الحكيم العليم، وكان الشيخ الإمام الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول: إن لله تعالى في كل جوهر فرد أنواعا غير متناهية من الدلائل الدالة على القدرة والحكمة والرحمة، وذلك لأن كل جوهر فرد فإنه يمكن وقوعه في أحياز غير متناهية على البدل، ويمكن أيضا اتصافه بصفات غير متناهية على البدل، وكل واحد من تلك الأحوال المقدرة فإنه بتقدير الوقوع يدل على الافتقار إلى وجود الصانع الحكيم الرحيم،
 فثبت بما ذكرنا أن هذا النوع من المباحث غير متناه.
 وأما تحصيل الهداية بطريق الرياضة والتصفية فذلك بحر لا ساحل له، ولكل واحد من السائرين إلى الله تعالى منهج خاص، ومشرب معين، كما قال: " لكل وجهة هو موليها"[البقرة: 148] ولا وقوف للعقول على تلك الأسرار، ولا خبر عند الأفهام من مبادئ ميادين تلك الأنوار، والعارفون المحققون لحظوا فيها مباحث عميقة، وأسرارا دقيقة، قلما ترقى إليها أفهام الأكثرين


وأما قوله جل جلاله : " صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين" ،  فما أجل هذه المقامات، وأعظم مراتب هذه الدرجات! ومن وقف على ما ذكرناه من البيانات أمكنه أن يطلع على مبادئ هذه الحالات، فقد ظهر بالبيان الذي سبق أن هذه السورة مشتملة على مباحث لا نهاية لها، وأسرار لا غاية لها، وأن قول من يقول هذه السورة مشتملة على عشرة آلاف مسألة، كلام خرج على ما يليق بأفهام السامعين.

 ‌‌الفصل الثاني 

في تقرير مَشْرَعٍ آخر يدل على أنه يمكن استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة

ولنتكلم في قولنا: " أعوذ بالله " فنقول: أعوذ ، نوع من أنواع الفعل المضارع، والفعل المضارع نوع من أنواع الفعل، وأما الباء في قوله «بالله» فهي باء الإلصاق، وهي نوع من أنواع حروف الجر، وحروف الجر نوع من أنواع الحروف.
 وأما قولنا «الله» فهو اسم معين: إما من أسماء الأعلام، أو من الأسماء المشتقة، على اختلاف القولين فيه، والاسم العلم والاسم المشتق كل واحد منهما نوع من أنواع مطلق الاسم، وقد ثبت في العلوم العقلية، أن معرفة النوع ممتنع حصولها إلا بعد معرفة الجنس، لأن الجنس جزء من ماهية النوع، والعلم بالبسيط مقدم على العلم بالمركب لا محالة،
فقولنا: أعوذ بالله ،لا يمكن تحصيل العلم به كما ينبغي إلا بعد معرفة الاسم والفعل والحرف أولا، وهذه المعرفة لا تحصل إلا بعد ذكر حدودها وخواصها، ثم بعد الفراغ منه لا بد من تقسيم الاسم إلى الاسم العلم، وإلى الاسم المشتق، وإلى اسم الجنس، وتعريف كل واحد من هذه الأقسام بحده ورسمه وخواصه، ثم بعد الفراغ منه يجب الكلام في أن لفظة الله اسم علم، أو اسم مشتق، وبتقدير أن يكون مشتقا فهو مشتق من ماذا؟ ويذكر فيه الوجوه الكثيرة التي قيل بكل واحد منها،
 وأيضا يجب البحث عن حقيقة الفعل المطلق، ثم يذكر بعده أقسام الفعل، ومن جملتها الفعل المضارع، ويذكر حده وخواصه وأقسامه، ثم يذكر بعده المباحث المتعلقة بقولنا «أعوذ» على التخصيص، وأيضا يجب البحث عن حقيقة الحرف المطلق، ثم يذكر بعده حرف الجر وحده وخواصه وأحكامه ثم يذكر بعده باء الإلصاق وحده وخواصه، وعند الوقوف على تمام هذه المباحث يحصل الوقوف على تمام المباحث اللفظية المتعلقة بقوله:  "أعوذ بالله "، ومن المعلوم أن المباحث التي أشرنا إلى معاقدها كثيرة جدا.

ثم نقول: والمرتبة الرابعة: من المراتب أن نقول: الاسم والفعل والحرف أنواع ثلاثة داخلة تحت جنس الكلمة، فيجب البحث أيضا عن ماهية الكلمة وحدها وخواصها، وأيضا فههنا ألفاظ أخرى شبيهة بالكلمة، وهي: الكلام، والقول، واللفظ، واللغة، والعبارة، فيجب البحث عن كل واحد منها، ثم يجب البحث عن كونها من الألفاظ المترادفة، أو من الألفاظ المتباينة، وبتقدير أن تكون ألفاظا متباينة فإنه يجب ذكر تلك الفروق على التفصيل والتحصيل.

ثم نقول: والمرتبة الخامسة: من البحث أن نقول: لا شك أن هذه الكلمات إنما تحصل من الأصوات

يستكمل في اللقاء القادم



تعليقات