تهذيب مدارج السالكين (الحلقة الثانية)

مدارج السالكين
مدارج السالكين

* حِكْمَة الْعِبَادَةِ وَمَنْفَعَتُها :

أولا : طرق النَّاسِ فِي مَنْفَعَةِ الْعِبَادَةِ وَحِكْمَتِهَا وَمَقْصُودِهَا

وهي طُرُقٌ أَرْبَعَةٌ، وَالناس فِي ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَصْنَافٍ:

الصِّنْفُ الْأَوَّلُ: نُفَاةُ الْحُكْمِ وَالتَّعْلِيلِ

الَّذِينَ يَرُدُّونَ الْأَمْرَ-بالعبادة- إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَصِرْفِ الْإِرَادَةِ، فَهَؤُلَاءِ عِنْدَهُمُ الْقِيَامُ بِهَا لَيْسَ إِلَّا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِسَعَادَةٍ فِي مَعَاشٍ وَلَا مَعَادٍ، وَلَا سَبَبًا لِنَجَاةٍ، وَإِنَّمَا الْقِيَامُ بِهَا لِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَمَحْضِ الْمَشِيئَةِ، كَمَا قَالُوا فِي الْخَلْقِ: إِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْ مَا خَلَقَهُ لِعِلَّةٍ، وَلَا لِغَايَةٍ هِيَ الْمَقْصُودَةُ بِهِ، وَلَا لِحِكْمَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَلَيْسَ فِي الْمَخْلُوقَاتِ أَسْبَابٌ مُقْتَضِيَاتٌ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَلَا فِيهَا قُوًى وَلَا طَبَائِعُ، فَلَيْسَتِ النَّارُ سَبَبًا لِلْإِحْرَاقِ، وَلَا الْمَاءُ سَبَبًا لِلْإِرْوَاءِ وَالَبْرِيدِ وَإِخْرَاجِ النَّبَاتِ، وَلَا فِيهِ قُوَّةٌ وَلَا طَبِيعَةٌ تَقْتَضِي ذَلِكَ، وَحُصُولُ الْإِحْرَاقِ وَالرِّيِّ لَيْسَ بِهِمَا، لَكِنْ بِإِجْرَاءِ الْعَادَةِ الْاِقْتِرَانِيَّةِ عَلَى حُصُولِ هَذَا عِنْدَ هَذَا لَا بِسَبَبٍ وَلَا بِقُوَّةٍ قَامَتْ بِهِ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ عِنْدَهُمْ فِي أَمْرِهِ الشَّرْعِيِّ سَوَاءٌ، لَا فَرْقَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ بَيْنَ الْمَأْمُورِ وَالْمَحْظُورِ، وَلَكِنَّ الْمَشِيئَةَ اقْتَضَتْ أَمْرَهُ بِهَذَا وَنَهْيَهُ عَنْ هَذَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ بِالْمَأْمُورِ بِهِ صِفَةٌ اقْتَضَتْ حُسْنَهُ، وَلَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ صِفَةٌ اقْتَضَتْ قُبْحَهُ.

وَلِهَذَا الْأَصْلِ لَوَازِمُ وَفُرُوعٌ كَثِيرَةٌ فَاسِدَةٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي كِتَابِنَا الْكَبِيرِ الْمُسَمَّى " مِفْتَاحُ دَارِ السَّعَادَةِ وَمَطْلَبُ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ " وَبَيَّنَّا فَسَادَ هَذَا الْأَصْلِ مِنْ نَحْوِ سِتِّينَ وَجْهًا، وَهُوَ كِتَابٌ بَدِيعٌ فِي مَعْنَاهُ، وَذَكَرْنَاهُ أَيْضًا فِي كِتَابِنَا الْمُسَمَّى " سَفَرُ الْهِجْرَتَيْنِ وَطَرِيقُ السَّعَادَتَيْنِ ".

وَهَؤُلَاءِ لَا يَجِدُونَ حَلَاوَةَ الْعِبَادَةِ وَلَا لَذَّتَهَا، وَلَا يَتَنَعَّمُونَ بِهَا، وَلَيْسَتِ الصَّلَاةُ قُرَّةَ أَعْيُنِهِمْ، وَلَيْسَتِ الْأَوَامِرُ سُرُورَ قُلُوبِهِمْ، وَغِذَاءَ أَرْوَاحِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ، وَلِهَذَا يُسَمُّونَهَا تَكَالِيفَ، أَيْ قَدْ كُلِّفُوا بِهَا، وَلَوْ سَمَّى مُدَّعٍ لِمَحَبَّةِ مَلِكٍ مِنَ الْمُلُوكِ أَوْ غَيْرِهِ مَا يَأْمُرُهُ بِهِ تَكْلِيفًا، وَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا أَفْعَلُهُ بِكُلْفَةٍ، لَمْ يَعُدَّهُ أَحَدٌ مُحِبًّا لَهُ، وَلِهَذَا أَنْكَرَ هَؤُلَاءِ أَوْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ مَحَبَّةَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ، وَقَالُوا: إِنَّمَا يُحِبُّ ثَوَابَهُ وَمَا يَخْلُقُهُ لَهُ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي يَتَمَتَّعُ بِهِ، لَا أَنَّهُ يُحِبُّ ذَاتَهُ، فَجَعَلُوا الْمَحَبَّةَ لِمَخْلُوقِهِ دُونَهُ، وَحَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ هِيَ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ، فَأَنْكَرُوا حَقِيقَةَ الْعُبُودِيَّةِ وَلُبَّهَا، وَحَقِيقَةُ الْإِلَهِيَّةِ كَوْنُهُ مَأْلُوهًا مَحْبُوبًا بِغَايَةِ الْحُبِّ، الْمَقْرُونِ بِغَايَةِ الذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، فَأَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَحْبُوبًا، وَذَلِكَ إِنْكَارٌ لِإِلَهِيَّتِهِ .

الصِّنْفُ الثَّانِي: الْقَدَرِيَّةُ الْنُفَاةُ :

الَّذِينَ يُثْبِتُونَ نَوْعًا مِنَ الْحِكْمَةِ وَالتَّعْلِيلِ وَلَكِنْ لَا يَقُومُ بِالرَّبِّ، وَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ، بَلْ يَرْجِعُ إِلَى مُجَرَّدِ مَصْلَحَةِ الْمَخْلُوقِ وَمَنْفَعَتِهِ.
فَعِنْدَهُمْ: أَنَّ الْعِبَادَاتِ شُرِعَتْ أَثْمَانًا لِمَا يَنَالُهُ الْعِبَادُ مِنَ الثَّوَابِ وَالنَّعِيمِ، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ أُجْرَةِ الْأَجِيرِ.
قَالُوا: وَلِهَذَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى عِوَضًا كَقَوْلِهِ {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] وَقَوْلِهِ {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] وَقَوْلِهِ {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] وَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ "يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا"، وَقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]
قَالُوا: وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءً وَأَجْرًا وَثَوَابًا، لِأَنَّهُ يَثُوبُ إِلَى الْعَامِلِ مِنْ عَمَلِهِ، أَيْ يَرْجِعُ إِلَيْهِ مِنْهُ.
قَالُوا: وَلَوْلَا ارْتِبَاطُهُ بِالْعَمَلِ لَمْ يَكُنْ لِتَسْمِيَتِهِ جَزَاءً وَلَا أَجْرًا وَلَا ثَوَابًا مَعْنًى.
قَالُوا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَزْنُ، فَلَوْلَا تَعَلُّقُ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ بِالْأَعْمَالِ وَاقْتِضَاؤُهَا لَهَا، وَكَوْنُهَا كَالْأَثْمَانِ لَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَزْنِ مَعْنًى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ - وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 8 - 9] .

وَهَاتَانِ الطَّائِفَتَانِ مُتَقَابِلَتَانِ أَشَدَّ التَّقَابُلِ، وَبَيْنَهُمَا أَعْظَمُ التَّبَايُنِ.

فَالْجَبْرِيَّةُ لَمْ تَجْعَلْ لِلْأَعْمَالِ اِرْتِبَاطًا بِالْجَزَاءِ الْبَتَّةَ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يُعَذِّبَ اللَّهُ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي طَاعَتِهِ، وَيُنَعِّمَ مَنْ أَفْنَى عُمْرَهُ فِي مَعْصِيَتِهِ، وَكِلَاهُمَا بِالْنِسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَجَوَّزَتْ أَنْ يَرْفَعَ صَاحِبَ الْعَمَلِ الْقَلِيلِ عَلَى مَنْ هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ عَمَلًا، وَأَكْثَرُ وَأَفْضَلُ دَرَجَاتٍ، وَالْكُلُّ عِنْدَهُمْ رَاجِعٌ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، مِنْ غَيْرِ تَعْلِيلٍ وَلَا سَبَبٍ، وَلَا حِكْمَةٍ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ هَذَا بِالْثَوَابِ، وَهَذَا بِالْعِقَابِ.
وَالْقَدَرِيَّةُ أَوْجَبَتْ عَلَى اللَّهِ رِعَايَةَ الْأَصْلَحِ، وَجَعَلَتْ ذَلِكَ كُلَّهُ بِمَحْضِ الْأَعْمَالِ وَثَمَنًا لَهَا، وَأَنَّ وُصُولَ الثَّوَابِ إِلَى الْعَبْدِ بِدُونِ عَمَلِهِ فِيهِ تَنْغِيصٌ بِاحْتِمَالِ مِنَّةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ بِلَا ثَمَنٍ.
فَقَاتَلَهُمُ اللَّهُ، مَا أَجْهَلَهُمْ بِاللَّهِ وَأَغَرَّهُمْ بِهِ! جَعَلُوا تَفَضُّلَهُ وَإِحْسَانَهُ إِلَى عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ صَدَقَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْعَبْدِ، حَتَّى قَالُوا: إِنَّ إِعْطَاءَهُ مَا يُعْطِيهِ أُجْرَةً عَلَى عَمَلِهِ أَحَبُّ إِلَى الْعَبْدِ وَأَطْيَبُ لَهُ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ فَضْلًا مِنْهُ بِلَا عَمَلٍ.
فَقَابَلَتْهُمُ الْجَبْرِيَّةُ أَشَدَّ الْمُقَابَلَةِ، وَلَمْ يَجْعَلُوا لِلْأَعْمَالِ تَأْثِيرًا فِي الْجَزَاءِ الْبَتَّةَ.
وَالْطَائِفَتَانِ جَائِرَتَانِ، مُنْحَرِفَتَانِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، الَّذِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِبَادَهُ،
وَجَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَنَزَلَتْ بِهِ الْكُتُبُ، وَهُوَ أَنَّ الْأَعْمَالَ أَسْبَابٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، مُقْتَضِيَةٌ لَهُمَا كَاقْتِضَاءِ سَائِرِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، وَأَنَّ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مِنْ تَوْفِيقِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ وَمَنِّهِ، وَصَدَقَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ، إِنْ أَعَانَهُ عَلَيْهَا وَوَفَّقَهُ لَهَا، وَخَلَقَ فِيهِ إِرَادَتَهَا وَالْقُدْرَةَ عَلَيْهَا، وَحَبَّبَهَا إِلَيْهِ، وَزَيَّنَهَا فِي قَلْبِهِ وَكَرَّهَ إِلَيْهِ أَضْدَادُهَا.

الصِّنْفُ الثَّالِثُ: الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ فَائِدَةَ الْعِبَادَةِ رِيَاضَةُ النُّفُوسِ

وَاسْتِعْدَادُهَا لِفَيْضِ الْعُلُومِ عَلَيْهَا، وَخُرُوجِ قُوَاهَا عَنْ قُوَى النُّفُوسِ الْسَبُعِيَّةِ وَالْبَهِيمِيَّةِ، فَلَوْ عُطِّلَتْ عَنِ الْعِبَادَاتِ لَكَانَتْ مِنْ جِنْسِ نُفُوسِ السِّبَاعِ وَالْبَهَائِمِ، وَالْعِبَادَاتُ تُخْرِجُهَا عَنْ مَأْلُوفَاتِهَا وَعَوَائِدِهَا، وَتَنْقِلُهَا إِلَى مُشَابَهَةِ الْعُقُولِ الْمُجَرَّدَةِ، فَتَصِيرُ عَالِمَةً قَابِلَةً لِانْتِقَاشِ صُوَرِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ فِيهَا، وَهَذَا يَقُولُهُ طَائِفَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: مَنْ يَقْرُبُ إِلَى النُّبُوَّاتِ وَالشَّرَائِعِ مِنَ الْفَلَاسِفَةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَعَدَمِ انْشِقَاقِ الْأَفْلَاكِ، وَعَدَمِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ.
الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ: مَنْ تَفَلْسَفَتْ مِنْ صُوفِيَّةِ الْإِسْلَامِ، وَتَقَرَّبَ إِلَى الْفَلَاسِفَةِ، فَإِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ رِيَاضَاتٌ لِاسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ وَتَجَرُّدِهَا، وَمُفَارَقَتِهَا الْعَالَمَ الْحِسِّيَّ، وَنُزُولِ الْوَارِدَاتِ وَالْمَعَارِفِ عَلَيْهَا.
ثُمَّ مِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُوجِبُ الْعِبَادَاتِ إِلَّا لِهَذَا الْمَعْنَى، فَإِذَا حَصَلَ لَهَا بَقِيَ مُخَيَّرًا فِي حِفْظِهِ أَوْ رَدِّهِ، أَوِ الِاشْتِغَالِ بِالْوَارِدِ عَنْهَا،
وَمِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ الْقِيَامَ بِالْأَوْرَادِ وَالْوَظَائِفِ، وَعَدَمِ الْإِخْلَالِ بِهَا، وَهُمْ صِنْفَانِ أَيْضًا:
أَحَدُهُمَا: مَنْ يُوجِبُونَهُ حِفْظًا لِلْقَانُونِ، وَضَبْطًا لِلنُّفُوسِ.
وَالْآخَرُونَ: الَّذِينَ يُوجِبُونَهُ حِفْظًا لِلْوَارِدِ، وَخَوْفًا مَنْ تَدْرُجِ النَّفْسِ بِمُفَارَقَتِهَا لَهُ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى مِنَ الْبَهِيمِيَّةِ.
فَهَذِهِ نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْمُتَكَلِّمِينَ عَلَى طَرِيقِ السُّلُوكِ، وَغَايَةُ مَعْرِفَتِهِمْ بِحُكْمِ الْعِبَادَةِ وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ، وَلَا تَكَادُ تَجِدُ فِي كُتُبِ الْقَوْمِ غَيْر هَذِهِ الطُّرُقِ الثَّلَاثَةِ، عَلَى سَبِيلِ الْجَمْعِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ.

الصِّنْفُ الرَّابِعُ: فَهُمُ الطَّائِفَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ الْإِبْرَاهِيمِيَّةُ

أَتْبَاعُ الْخَلِيلَيْنِ، الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي أَمْرِهِ وَشَرْعِهِ وَخَلْقِهِ، وَأَهْلُ الْبَصَائِرِ فِي عِبَادَتِهِ، وَمُرَادِهِ بِهَا.

فَالطَّوَائِفُ الثَّلَاثُ مَحْجُوبُونَ عَنْهُمْ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الشُّبَهِ الْبَاطِلَةِ، وَالْقَوَاعِدِ الْفَاسِدَةِ، مَا عِنْدَهُمْ وَرَاءَ ذَلِكَ شَيْءٌ، قَدْ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْمُحَالِ، وَقَنَعُوا بِمَا أَلِفُوهُ مِنَ الْخَيَالِ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّ وَرَاءَهُ مَا هُوَ أَجَّلُ مِنْهُ وَأَعْظَمُ لَمَا ارْتَضَوْا بِدُونِهِ، وَلَكِنَّ عُقُولَهُمْ قَصُرَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَيْهِ بِنُورِ النُّبُوَّةِ، وَلَمْ يَشْعُرُوا بِهِ، لِيَجْتَهِدُوا فِي طَلَبِهِ، وَرَأَوْا أَنَّ مَا مَعَهُمْ خَيْرٌ مِنَ الْجَهْلِ، وَرَأَوْا تَنَاقُضَ مَا مَعَ غَيْرِهِمْ وَفَسَادَهُ.
فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ إِيثَارُ مَا عِنْدَهُمْ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَهَذِهِ بَلِيَّةُ الطَّوَائِفِ، وَالْمُعَافَى مَنْ عَافَاهُ اللَّهُ.

ثانيا : سِرُّ الْعُبُودِيَّةِ وَغَايَتُهَا وَحِكْمَتُهَا

فَاعْلَمْ أَنَّ سِرَّ الْعُبُودِيَّةِ، وَغَايَتَهَا وَحِكْمَتَهَا إِنَّمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا مَنْ عَرَفَ صِفَاتِ الرَّبِّ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَمْ يُعَطِّلْهَا، وَعَرَفَ مَعْنَى الْإِلَهِيَّةِ وَحَقِيقَتَهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهِ إِلَهًا، بَلْ هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَكُلُّ إِلَهٍ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ، بَلْ أَبْطَلُ الْبَاطِلِ، وَأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ،
وَأَنَّ الْعِبَادَةَ مُوجَبُ إِلَهِيَّتِهِ وَأَثَرُهَا وَمُقْتَضَاهَا، وَارْتِبَاطُهَا بِهَا كَارْتِبَاطِ مُتَعَلِّقِ الصِّفَاتِ بِالصِّفَاتِ، وَكَارْتِبَاطِ الْمَعْلُومِ بِالْعِلْمِ، وَالْمَقْدُورِ بِالْقُدْرَةِ، وَالْأَصْوَاتِ بِالْسَمْعِ، وَالْإِحْسَانِ بِالْرَحْمَةِ، وَالْعَطَاءِ بِالْجُودِ.
(قلت.لولا ألوهية وعظمة الخالق ، لامتنعت المخلوقات من الوجود فهم مقهورين ، فالسموات والارضين والملائكة والجن والانسان هم عباد الله وإن لم يكن لهم عبادة من افعال واقوال وسلوك وتسبيح وصلاة ، قال الله : "ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ" فصلت 11، أي أتينا وخرجنا للوجود والى الخالق طائعين ، فبألوهية الله من ذات وصفات وانصياع المخلوقات للوجود ،كان الكون ، لكن لما جعل الله للجن والانس سعة من إطلاق وتحرير للارادة كان الثواب والعقاب ،
ولله المثل الاعلى ،فالمملوك من الناس هو عبد وملك سيده ، وإن لم يقم بخدمته من أعمال وبمجرد الوقت الذي اشتراه فيه صار عبدا له، فكذلك المخلوق بمجرد خلقه ونشأته من العدم بل بمجرد أن أراده الله وقبل ان يقول له كن فيكون
)
فَمَنْ أَنْكَرَ حَقِيقَةَ الْإِلَهِيَّةِ وَلَمْ يَعْرِفْهَا، كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ مَعْرِفَةُ حِكْمَةِ الْعِبَادَاتِ وَغَايَاتِهَا وَمَقَاصِدِهَا وَمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِهِ؟
و كَيْفَ يَسْتَقِيمُ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنَّهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ بِالْخَلْقِ، وَالَّتِي لَهَا خُلِقُوا، وَلَهَا أُرْسِلَتِ الرُّسُلُ، وَأُنْزِلَتِ الْكُتُبُ، وَلِأَجْلِهَا خُلِقَتِ الْجَنَّةُ وَالْنَارُ؟
وَأَنَّ فَرْضَ تَعْطِيلِ الْخَلِيقَةِ عَنْهَا نِسْبَةٌ لِلَّهِ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَيَتَعَالَى عَنْهُ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلَمْ يَخْلُقْهُمَا بَاطِلًا، وَلَمْ يَخْلُقِ الْإِنْسَانَ عَبَثًا وَلَمْ يَتْرُكْهُ سُدًى مُهْمَلًا،
قَالَ تَعَالَى {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115] أَيْ لِغَيْرِ شَيْءٍ وَلَا حِكْمَةٍ، وَلَا لِعِبَادَتِي وَمُجَازَاتِي لَكُمْ، وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى بِهَذَا فِي قَوْلِهِ {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فَالْعِبَادَةُ هِيَ الْغَايَةُ الَّتِي خَلَقَ لَهَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالْخَلَائِقَ كُلَّهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] أَيْ مُهْمَلًا، قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: لَا يُثَابُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْصَحِيحُ الْأَمْرَانِ، فَإِنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ مُتَرَتِّبَانِ عَلَى الْأَمْرِ وَالْنَهْيِ، وَالْأَمْرُ وَالْنَهْيُ طَلَبُ الْعِبَادَةِ وَإِرَادَتُهَا، وَحَقِيقَةُ الْعِبَادَةِ امْتِثَالُهُمَا، وَقَالَ تَعَالَى {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران: 191]
وَقَالَ {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر: 85] وَقَالَ {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الجاثية: 22] .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ الْمُتَضَمِّنِ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَثَوَابَهُ وَعِقَابَهُ.
فَإِذَا كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَا بَيْنَهُمَا خُلِقَتْ لِهَذَا، وَهُوَ غَايَةُ الْخَلْقِ، فَكَيْفَ يُقَالُ إِنَّهُ لَا عِلَّةَ لَهُ، وَلَا حِكْمَةَ مَقْصُودَةٌ هِيَ غَايَتُهُ؟ أَوْ إِنَّ ذَلِكَ لِمُجَرَّدِ اسْتِئْجَارِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يُنَكَّدَ عَلَيْهِمُ الثَّوَابُ بِالْمِنَّةِ، أَوْ لِمُجَرَّدِ اسْتِعْدَادِ النُّفُوسِ لِلْمَعَارِفِ الْعَقْلِيَّةِ، وَارْتِيَاضِهَا بِمُخَالَفَةِ الْعَوَائِدِ؟ .
فَلْيَتَأَمَّلِ اللَّبِيبُ الْفُرْقَانَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ، وَبَيْنَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ صَرِيحُ الْوَحْيِ يَجِدْ أَنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْأَقْوَالِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، وَلَا عَرَفُوهُ حَقَّ مَعْرِفَتِهِ.

فَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِعِبَادَتِهِ، الْجَامِعَةِ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ، مَعَ الْخُضُوعِ لَهُ وَالِانْقِيَادِ لِأَمْرِهِ.

فَأَصْلُ الْعِبَادَةِ: مَحَبَّةُ اللَّهِ،

بَلْ إِفْرَادُهُ بِالْمَحَبَّةِ، وَأَنْ يَكُونَ الْحُبُّ كُلُّهُ لِلَّهِ، فَلَا يُحِبُّ مَعَهُ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ لِأَجْلِهِ وَفِيهِ، كَمَا يُحِبُّ أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَوْلِيَاءَهُ، فَمَحَبَّتُنَا لَهُمْ مِنْ تَمَامِ مَحَبَّتِهِ، وَلَيْسَتْ مَحَبَّةً مَعَهُ، كَمَحَبَّةِ مَنْ يَتَّخِذُ مَنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّهِ.

تحقيق المحبة :

وَإِذَا كَانَتِ الْمَحَبَّةُ لَهُ هِيَ حَقِيقَةَ عُبُودِيَّتِهِ وَسِرَّهَا، فَهِيَ إِنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ، فَعِنْدَ اتِّبَاعِ الْأَمْرِ وَاجْتِنَابِ النَّهْيِ تَتَبَيَّنُ حَقِيقَةُ الْعُبُودِيَّةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَلِهَذَا جَعَلَ تَعَالَى اتِّبَاعَ رَسُولِهِ عَلَمًا عَلَيْهَا، وَشَاهِدًا لِمَنِ ادَّعَاهَا، فَقَالَ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] فَجَعَلَ اتِّبَاعَ رَسُولِهِ مَشْرُوطًا بِمَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَشَرْطًا لِمَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، وَوُجُودُ الْمَشْرُوطِ مُمْتَنِعٌ بِدُونِ وُجُودِ شَرْطِهِ وَتَحَقُّقُهُ بِتَحَقُّقِهِ فَعُلِمَ انْتِفَاءُ الْمَحَبَّةِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ، فَانْتِفَاءُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ لَازِمٌ لِانْتِفَاءِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ، وَانْتِفَاءُ الْمُتَابَعَةِ مَلْزُومٌ لِانْتِفَاءِ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ، فَيَسْتَحِيلُ إذًا ثُبُوتُ مَحَبَّتِهِمْ لِلَّهِ، وَثُبُوتُ مَحَبَّةِ اللَّهِ لَهُمْ بِدُونِ الْمُتَابَعَةِ لِرَسُولِهِ.

وَدَلَّ عَلَى أَنَّ مُتَابَعَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَطَاعَةُ أَمْرِهِ، وَلَا يَكْفِي ذَلِكَ فِي الْعُبُودِيَّةِ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِمَّا سِوَاهُمَا، فَلَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَتَى كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُمَا فَهَذَا هُوَ الشِّرْكُ الَّذِي لَا يَغْفِرُهُ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْبَتَّةَ، وَلَا يَهْدِيهِ اللَّهُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24] .

فَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ طَاعَةَ أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ قَوْلَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى قَوْلِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ مَرْضَاةَ أَحَدٍ مِنْهُمْ عَلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، أَوْ خَوْفَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَرَجَاءَهُ وَالْتَوَكُّلَ عَلَيْهِ عَلَى خَوْفِ اللَّهِ وَرَجَائِهِ وَالْتَوَكُّلِ عَلَيْهِ، أَوْ مُعَامَلَةَ أَحَدِهِمْ عَلَى مُعَامَلَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِمَّنْ لَيْسَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَإِنْ قَالَهُ بِلِسَانِهِ فَهُوَ كَذِبٌ مِنْهُ، وَإِخْبَارٌ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ،
وَكَذَلِكَ مَنَّ قَدَّمَ حُكْمَ أَحَدٍ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَذَلِكَ الْمُقَدَّمُ عِنْدَهُ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَكِنْ قَدْ يَشْتَبِهُ الْأَمْرُ عَلَى مَنْ يُقَدِّمُ قَوْلَ أَحَدٍ أَوْ حُكْمَهُ، أَوْ طَاعَتَهُ أَوْ مَرْضَاتَهُ، ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَحْكُمُ وَلَا يَقُولُ إِلَّا مَا قَالَهُ الرَّسُولُ، فَيُطِيعُهُ، وَيُحَاكِمُ إِلَيْهِ، وَيَتَلَقَّى أَقْوَالَهُ كَذَلِكَ، فَهَذَا مَعْذُورٌ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا إِذَا قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الرَّسُولِ، وَعَرَفَ أَنَّ غَيْرَ مَنِ اتَّبَعَهُ هُوَ أَوْلَى بِهِ مُطْلَقًا، أَوْ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الرَّسُولِ وَلَا إِلَى مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ، فَهَذَا الَّذِي يُخَافُ عَلَيْهِ، وَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْوَعِيدِ، فَإِنِ اسْتَحَلَّ عُقُوبَةَ مَنْ خَالَفَهُ وَأَذَلَّهُ، وَلَمْ يُوَافِقْهُ عَلَى اتِّبَاعِ شَيْخِهِ، فَهُوَ مِنَ الظَّلَمَةِ الْمُعْتَدِينَ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا.

لُزُومِ "إِيَّاكَ نَعْبُدُ" لِكُلِّ عَبْدٍ إِلَى الْمَوْتِ

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99] وَقَالَ أَهْلُ النَّارِ {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 46] وَالْيَقِينُ هَاهُنَا هُوَ الْمَوْتُ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ، وَفِي الصَّحِيحِ "فِي قِصَّةِ مَوْتِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَمَّا عُثْمَانُ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ مِنْ رَبِّهِ أَيِ الْمَوْتُ وَمَا فِيهِ" ، فَلَا يَنْفَكُّ الْعَبْدُ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ مَا دَامَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ،
بَلْ عَلَيْهِ فِي الْبَرْزَخِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى لَمَّا يَسْأَلُهُ الْمَلَكَانِ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ؟ وَمَا يَقُولُ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَيَلْتَمِسَانِ مِنْهُ الْجَوَابَ،
وَعَلَيْهِ عُبُودِيَّةٌ أُخْرَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَوْمَ يَدْعُو اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَى السُّجُودِ، فَيَسْجُدُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيَبْقَى الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ لَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ،
فَإِذَا دَخَلُوا دَارَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ انْقَطَعَ التَّكْلِيفُ هُنَاكَ، وَصَارَتْ عُبُودِيَّةُ أَهْلِ الثَّوَابِ تَسْبِيحًا مَقْرُونًا بِأَنْفَاسِهِمْ لَا يَجِدُونَ لَهُ تَعَبًا وَلَا نَصْبًا.
وَمَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يَصِلُ إِلَى مَقَامٍ يَسْقُطُ عَنْهُ فِيهِ التَّعَبُّدُ، فَهُوَ زِنْدِيقٌ كَافِرٌ بِاللَّهِ.
(قلت.الخلاصة: كل مخلوق ، إما هو عَبْد عابد، أو عَبْد كافر)

الْعُبُودِيَّةُ نَوْعَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ.

فَالْعُبُودِيَّةُ الْعَامَّةُ:

عُبُودِيَّةُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلِّهِمْ لِلَّهِ، بَرِّهِمْ وَفَاجِرِهِمْ، مُؤْمِنِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، فَهَذِهِ عُبُودِيَّةُ الْقَهْرِ وَالْمُلْكِ، قَالَ تَعَالَى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا ، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ، تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ، وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا ، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم: 88 - 93] فَهَذَا يَدْخُلُ فِيهِ مُؤْمِنُهُمْ وَكَافِرُهُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ} [الفرقان: 17] فَسَمَّاهُمْ عِبَادَهُ مَعَ ضَلَالِهِمْ، لَكِنْ تَسْمِيَةً مُقَيَّدَةً بِالْإِشَارَةِ، وَأَمَّا الْمُطْلَقَةُ فَلَمْ تَجِئْ إِلَّا لِأَهْلِ النَّوْعِ الثَّانِي، كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

وَقَالَ تَعَالَى {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46] وَقَالَ {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] وَقَالَ {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: 48] فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْعُبُودِيَّةَ الْخَاصَّةَ وَالْعَامَّةَ.

وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي:

فَعُبُودِيَّةُ الطَّاعَةِ وَالْمَحَبَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْأَوَامِرِ،
قَالَ تَعَالَى {يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] وَقَالَ {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17] وَقَالَ {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] وَقَالَ تَعَالَى عَنْ إِبْلِيسَ {وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39] فَقَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] .

فَالْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَبِيدُ رُبُوبِيَّتِهِ، وَأَهْلُ طَاعَتِهِ وَوِلَايَتِهِ هُمْ عَبِيدُ إِلَهِيَّتِهِ.

وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّمَا سَمَّاهُمْ عِبَادَهُ إِذْ لَمْ يَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَتِهِ، وَأَنَابُوا إِلَيْهِ، وَاتَّبَعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ، فَيَكُونُوا مِنْ عَبِيدِ الْإِلَهِيَّةِ وَالطَّاعَةِ.

وَإِنَّمَا انْقَسَمَتِ الْعُبُودِيَّةُ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ، لِأَنَّ أَصْلَ مَعْنَى اللَّفْظَةِ الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، يُقَالُ طَرِيقٌ مُعَبَّدٌ إِذَا كَانَ مُذَلَّلًا بِوَطْءِ الْأَقْدَامِ، وَفُلَانٌ عَبَّدَهُ الْحُبُّ إِذَا ذَلَّلَهُ، لَكِنْ أَوْلِيَاؤُهُ خَضَعُوا لَهُ وَذَلُّوا طَوْعًا وَاخْتِيَارًا، وَانْقِيَادًا لِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَأَعْدَاؤُهُ خَضَعُوا لَهُ قَهْرًا وَرَغْمًا.

والقنوت نوعان :

وَنَظِيرُ انْقِسَامِ الْعُبُودِيَّةِ إِلَى خَاصَّةٍ وَعَامَّةٍ انْقِسَامُ الْقُنُوتِ إِلَى خَاصٍّ وَعَامٍّ، قَالَ تَعَالَى فِي الْقُنُوتِ الْخَاصِّ {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] وَقَالَ فِي حَقِّ مَرْيَمَ {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَقَالَ فِي الْقُنُوتِ الْعَامِّ {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [الروم: 26] أَيْ خَاضِعُونَ أَذِلَّاءُ.

والسجود نوعان :

وَقَالَ فِي السُّجُودِ الْخَاصِّ {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَقَالَ {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.

وَقَالَ فِي السُّجُودِ الْعَامِّ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [الرعد: 15] .

وَلِهَذَا كَانَ هَذَا السُّجُودُ الْكُرْهُ غَيْرَ السُّجُودِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18] فَخَصَّ بِالسُّجُودِ هُنَا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ ،
وَعَمَّهُمْ بِالسُّجُودِ فِي سُورَةِ النَّحْلِ {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ} [النحل: 49] وَهُوَ سُجُودُ الذُّلِّ وَالْقَهْرِ وَالْخُضُوعِ، فَكُلُّ أَحَدٍ خَاضِعٌ لِرُبُوبِيَّتِهِ، ذَلِيلٌ لِعِزَّتِهِ، مَقْهُورٌ تَحْتَ سُلْطَانِهِ تَعَالَى.
والى اللقاء في الحلقة الثالثة ان شاء الله.
تعليقات