حكم يمين الطلاق عند ابن تيمية


الحلف بالطلاق

الحلف بالطلاق من الأيمان وله كفّارة

معنى إجماع العلماء :


سئل ابن تيمية (مجموع الفتاوى ):
عن معنى إجماع العلماء؛ وهل يسوغ للمجتهد خلافهم؟ وما معناه؟
فأجاب:
الحمد لله، معنى الإجماع: أن تجتمع علماء المسلمين على حكم من الأحكام. وإذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام لم يكن لأحد أن يخرج عن إجماعهم؛ فإن الأمّة لا تجتمع على ضلالة ،
ولكن كثير من المسائل يظنّ بعض الناس فيها إجماعا ولا يكون الأمر كذلك، بل يكون القول الآخر أرجح في الكتاب والسنة.
وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم؛ فليس حجة لازمة ولا إجماعا باتفاق المسلمين، بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم ، أنهم نهوا الناس عن تقليدهم؛ وأمروا إذا رأوا قولا في الكتاب والسنة، أقوى من قولهم: أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب والسنة ويدعوا أقوالهم.
ولهذا كان الأكابر من أتباع الأئمة الأربعة لا يزالون إذا
ظهر لهم دلالة الكتاب أو السنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك مثل مسافة القصر؛ فإن تحديدها بثلاثة أيام أو ستة عشر فرسخا لما كان قولا ضعيفا كان طائفة من العلماء من أصحاب أحمد وغيرهم ترى قصر الصلاة في السفر الذي هو دون ذلك كالسفر من مكة إلى عرفة؛ فإنه قد ثبت أن أهل مكة قصروا مع النبي صلى الله عليه وسلم بمنى وعرفة. وكذلك طائفة من أصحاب مالك وأبي حنيفة وأحمد قالوا: إن جمع الطلاق الثلاث محرم وبدعة؛ لأن الكتاب والسنة عندهم إنما يدلان على ذلك وخالفوا أئمتهم.
وطائفة من أصحاب أبي حنيفة رأوا تحليف الناس بالطلاق وهو خلاف الأئمة الأربعة بل ذكر ابن عبد البر أن الإجماع منعقد على خلافه.
 وطائفة من أصحاب مالك وغيرهم قالوا: من حلف بالطلاق فإنه يكفر يمينه؛ وكذلك من حلف بالعتاق وكذلك قال طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي؛ قالوا: إن من قال: الطلاق يلزمني لا يقع به طلاق ومن حلف بذلك لا يقع به طلاق وهذا منقول عن أبي حنيفة نفسه.
 وطائفة من العلماء قالوا: إن الحالف بالطلاق لا يقع به طلاق ولا تلزمه كفارة ،
وقد ثبت عن الصحابة وأكابر التابعين في الحلف بالعتق أنه لا يلزمه؛ بل تجزئه كفارة يمين وأقوال الأئمة الأربعة بخلافه ، فالحلف بالطلاق بطريق الأولى ،
ولهذا كان من هو من أئمة التابعين يقول: الحلف بالطلاق لا يقع به الطلاق ويجعله يمينا فيه الكفارة.
وهذا بخلاف إيقاع الطلاق فإنه إذا وقع على الوجه الشرعي وقع باتفاق الأمة ولم تكن فيه كفارة باتفاق الأمة بل لا كفارة في الإيقاع مطلقا،
 وإنما الكفارة خاصة في الحلف.
 فإذا تنازع المسلمون في مسألة وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول فأي القولين دل عليه الكتاب والسنة وجب اتباعه ،
كقول من فرق بين النذر والعتق والطلاق وبين اليمين بذلك؛ فإن هذا هو الذي يدل عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والقياس؛
فإن الله ذكر حكم الطلاق في قوله تعالى {إذا طلقتم النساء} ،
وذكر حكم اليمين في قوله: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} ، وثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف
على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} ،
 فمن جعل اليمين بها لها حكم والنذر والإعتاق والتطليق له حكم آخر ،كان قوله موافقا للكتاب والسنة.
ومن جعل هذا وهذا سواء فقد خالف الكتاب والسنة.
ومن ظن في هذا إجماعا كان ظنه بحسب علمه حيث لم يعلم فيه نزاعا ،وكيف تجتمع الأمة على قول ضعيف مرجوح ليس عليه حجة صحيحة بل الكتاب والسنة والآثار عن الصحابة والقياس الصحيح يخالفه.

 وصيغ ( الطلاق):

 ثلاثة ، 1-صيغة إيقاع ، كقوله: أنت طالق: فهذه ليست يمينا باتفاق الناس.
2-وصيغة قَسَم ،كقوله: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا فهذه صيغة يمين باتفاق الناس.
3-وصيغة تعليق ،كقوله: إن زنيت فأنت طالق ، فهذا إن قصد به الإيقاع عند وجود الصفة، بأن يكون يريد إذا زنت إيقاع الطلاق
ولا يقيم مع زانية؛ فهذا إيقاع وليس بيمين،
 وإن قصد منعها وزجرها ولا يريد طلاقها إذا زنت، فهذا يمين باتفاق الناس.

كيف الحلف بالطلاق :

أن يحلف بذلك فيقول: الطلاق يلزمني لأفعلن كذا، أو لا أفعل كذا. أو يحلف على غيره - كعبده وصديقه الذي يرى أنه يبر قسمه - ليفعلن كذا. أو لا يفعل كذا. أو يقول: الحِلُّ علي حرام لأفعلن كذا، أو لا أفعله، أو يقول: علي الحج لأفعلن كذا، أو لا أفعله ونحو ذلك: فهذه صيغ قسم وهو حالف بهذه الأمور؛ لا موقع لها.

حكم الحلف بالطلاق:

وللعلماء في هذه الأيمان ثلاثة أقوال، " أحدها " أنه إذا حنث لزمه ما حلف به.
" والثاني " لا يلزمه شيء.
 و " الثالث " يلزمه كفارة يمين.
 ومن العلماء من فرق بين الحلف والطلاق والعتاق وغيرها.
 والقول الثالث أظهر الأقوال؛ لأن الله تعالى قال: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} وقال: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة وعدي بن حاتم وأبي
موسى أنه قال: {ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه} وجاء هذا المعنى في الصحيحين من حديث أبي هريرة وأبي موسى وعبد الرحمن بن سمرة،
 وهذا يعم جميع أيمان المسلمين فمن حلف بيمين من أيمان المسلمين وحنث أجزأته كفارة يمين.

حكم من حلف بغير الله قاصدا تعظيمها :
قال: ومن حلف بأيمان الشرك: مثل أن يحلف بتربة أبيه؛ أو الكعبة أو نعمة السلطان أو حياة الشيخ أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه اليمين غير منعقدة ولا كفارة فيها إذا حنث باتفاق أهل العلم.

قال: ومن حلف بأيمان الشرك: مثل أن يحلف بتربة أبيه؛ أو الكعبة أو نعمة السلطان أو حياة الشيخ أو غير ذلك من المخلوقات: فهذه اليمين غير منعقدة ولا كفارة فيها إذا حنث باتفاق أهل العلم.

أنواع الأيمان :

والأيمان التي يحلف بها الخلق ثلاثة أنواع:  " أحدها " يمين محترمة منعقدة: كالحلف باسم الله تعالى: فهذه فيها الكفارة بالكتاب والسنة والإجماع.
" الثاني "، الحلف بالمخلوقات: كالحالف بالكعبة، فهذه لا كفارة فيها باتفاق المسلمين.
 " والثالث " ،أن يعقد اليمين لله فيقول: إن فعلت كذا فَعَليّ الحج. أو مَالِي صدقة. أو فنسائي طوالق. أو فعبيدي أحرار؛ ونحو ذلك فهذه فيها الأقوال الثلاثة المتقدمة: إما لزوم المحلوف به، وإما الكفارة ، وإما لا هذا ولا هذا.
وليس في حكم الله ورسوله إلا يمينان: يمين من أيمان المسلمين ففيها الكفارة.
أو يمين ليست من أيمان المسلمين: فهذه لا شيء فيها إذا حنث.
فهذه الأيمان إن كانت من أيمان المسلمين ففيها كفارة؛ وإن لم تكن من أيمان المسلمين لم يلزم بها شيء.

اذا ثبت اليمين ثبت حكم الكفارة :

فأما إثبات يمين يلزم الحالف بها ما التزمه ولا تجزئه فيها كفارة: فهذا ليس في دين المسلمين؛ بل هو مخالف للكتاب والسنة. والله تعالى ذكر في سورة التحريم حكم أيمان المسلمين ، وذكر في السورة التي قبلها حكم طلاق المسلمين فقال في سورة التحريم: {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم} {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم وهو العليم الحكيم} ،
وقال في سورة الطلاق: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود
الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا} {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل له مخرجا} ،
 فهو سبحانه بَيِّنَ في هذه السورة حكم الطلاق، وبَيّن في تلك حكم أيمان المسلمين.

 الخلاصة :

قال : فالأيمان ثلاثة أقسام: " أحدها " ما ليس من أيمان المسلمين وهو الحلف بالمخلوقات،كالكعبة والملائكة والمشايخ والملوك والآباء؛ وتربتهم ونحو ذلك: فهذه يمين غير منعقدة ولا كفارة فيها باتفاق العلماء؛
بل هي منهي عنها باتفاق أهل العلم، والنهي نهي تحريم في أصح قوليهم. ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت} وقال {إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم} وفي السنن عنه أنه قال: {من حلف بغير الله فقد أشرك} .
 " والثاني " اليمين بالله تعالى كقوله: والله لأفعلن كذا ، فهذه يمين منعقدة فيها الكفارة إذا حنث فيها باتفاق المسلمين.
وأيمان المسلمين التي هي في معنى الحلف بالله مقصود الحالف بها تعظيم الخالق - لا الحلف بالمخلوقات - كالحلف بالنذر والحرام والطلاق والعتاق ،
كقوله: إن فعلت كذا فعلي صيام شهر أو الحج إلى بيت الله. أو الحِلّ عليّ حرام لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فكل ما أملكه حرام. أو الطلاق يلزمني لأفعلن كذا. أو لا أفعله. أو إن
فعلته فنسائي طوالق، وعبيدي أحرار وكل ما أملكه صدقة،
 ونحو ذلك فهذه الأيمان للعلماء فيها ثلاثة أقوال. قيل إذا حنث لزمه ما علقه وحلف به.
 وقيل لا يلزمه شيء.
وقيل: يلزمه كفارة يمين.
ومنهم من قال: الحلف بالنذر يجزيه فيه الكفارة والحلف بالطلاق والعتاق يلزمه ما حلف به.
 وأظهر الأقوال وهو القول الموافق للأقوال الثابتة عن الصحابة وعليه يدل الكتاب والسنة والاعتبار: أنه يجزئه كفارة يمين في جميع أيمان المسلمين كما قال الله تعالى: {ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم} وقال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم}،
 وثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه}،
 فإذا قال: الحل علي حرام لا أفعل كذا. أو الطلاق يلزمني لا أفعل كذا. أو إن فعلت كذا فعلي الحج. أو مالي صدقة:
أجزأه في ذلك كفارة يمين، فإن كفّر كفارة الظهار فهو أحسن.

كفّارة الأيمان ويمين الطلاق :

قال: وكفارة اليمين يُخيّر فيها بين العتق ،أو إطعام عشرة مساكين ،أو كسوتهم ، وإذا أطعمهم أطعم كل واحد جراية من الجرايات المعروفة في بلده: مثل أن يطعم ثمان أواق أو تسع أواق بالشامي ويطعم مع ذلك إدامها؛ كما جرت عادة أهل الشام في إعطاء الجرايات خبزا وإداما.
 وإذا كفّر يمينه لم يقع به الطلاق.

نية الحالف بالطلاق :

وأما إذا قصد إيقاع الطلاق على الوجه الشرعي: مثل أن ينجز الطلاق فيطلقها واحدة في طهر لم يصبها فيه: فهذا يقع به الطلاق باتفاق العلماء،

حكم الطلاق بصيغة التعليق :

 وكذلك إذا علق الطلاق بصفة يقصد إيقاع الطلاق عندها: مثل أن يكون مريدا للطلاق إذا فعلت أمرا من الأمور. فيقول لها: إن فعلته فأنت طالق. قصده أن يطلقها إذا فعلته: فهذا مطلق يقع به الطلاق عند السلف وجماهير الخلف؛
 بخلاف من قصده أن ينهاها ويزجرها باليمين؛ ولو فعلت ذلك الذي يكرهه لم يجز أن يطلقها؛ بل هو مريد لها وإن فعلته؛ لكنه قصد اليمين لمنعها عن الفعل؛ لا مريدا أن يقع الطلاق وإن فعلته: فهذا حلف لا يقع به الطلاق في أظهر قولي العلماء من السلف والخلف؛ بل يجزئه كفارة يمين كما تقدم.

(انتظروا قريبا :موضوع "حكم الطلاق الثلاث")


تعليقات