من أمثال القرآن ( صورة العَالِم الذي انسلخ من آيات الله )

 

أمثال القرآن(الكلب)

صاحب العلم الشرعي الذي انسلخ مما علمه من آيات الله وبراهينه :

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ .
وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ .
 سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ  .

سورة الأعراف ( الايات 175 – 177 )  

مثل الذي انسلخ من الهدى والايمان الى الضلال كمثل حال الكلب الذي يلهث دوما وكأنه في حالة اعياء

وذلك حال الضالين (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) طه ،
مقابل حال المؤمنين الباقيين على هداهم (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) النحل 97
قوله (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) شبه المرتد بالحيّة او الثعبان حين يخرج وينسل من جلده .

تفسير الوضاح 

تعريف لهث الكلب :

هو الأنفاس السريعة القصيرة التي يأخذها الكلب عن طريق الفم المفتوح  ولسانه المتدلي إلى الخارج .
وذلك من أجل تزويد جسمه بالأكسجين الكاف وتبريد درجة حرارة جسمه عن طريق لسانه وفمه .
ويزيد لهث الكلب عند العطش أو ارتفاع درجة الحرارة وبخاصة في المناطق الصحراوية أو التعب من العدو أو لمرض .
يقول ابن عباس : ان تحمل عليه الحكمة لم يحملها ، وان ترك لم يهتد للخير كذلك الكلب ان كان رابضا لهث وإن طرد يعدو يلهث .

تدلي لسان المنسلخ من آيات الله :

جانب آخر من صورة هيئة العَالِم الذي انسلخ من آيات الله كهيئة الكلب ليس فقط الأنفاس السريعة بل لتدلي اللسان :  .
وهذا حال الذي انتكس فكان يتدلى لسانه من فمه كما قال تعالى (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ )
وهكذا حال الانسان حين خلقه الله وأكرمه ونعمه في احسن تقويم فلما كفر الانسان نعمة الله وآياته من جمال الخلق أو العلم الشرعي ،
انقلب على عقبيه وصار قبيح المنظر والهيئة وهو حاله ومآله في جهنم ، والله يحذرنا وضرب لنا به المثل في الحياة الدنيا لكي نراه ونعتبر .

فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين :
لما انسلخ من آيات الله أصبح رأس الضلال والغواية بعد أن كان رأس الحق والهدى .

قيل أن الغاوين : أي الضالين ، قلت الأصوب والأبلغ، الغاوين بمعنى الذين يضلون الناس، قال تعالى في خبر محاجة رؤوس الضلال وأتباعهم يوم القيامة
قالوا لهم : " فأَغْويْناكمْ إِنَّا كُنا غاوِينَ " الصافات ، وقوله " شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ" الأنعام.

أربع قضايا في قوله تعالى " وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ" :  

الأولى : قوله " ولو شئنا" مثل قوله تعالى " وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا"
حيث أن الله يقدر بمشيئته على أن يجعل جميع خلقه مؤمنين .

الثانية : أن العلم الشرعي والايمان والعمل به يرفع صاحبه درجات عند الله تعالى
كما قال " يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ"

الثالثة : في مقابل الأولى والثانية في قوله " وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ"
وهذا كقوله تعالى " مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ "
فإن ما يصيب الناس من هدى وايمان هو من فضل الله ، وما يصيبهم من جحود وكفران انما هو بعمل الناس ونياتهم وارادتهم ،
والشاهد قوله " لكنه " حيث أسند فعل الانسلاخ والكفر الى الانسان ، لكن فعل الايمان والهدى فبالله تعالى .
الرابعة : قوله" أخلد الى الأرض واتبع هواه "،
حيث أن قوام الانسان أحسن قوام من بين جنس الحيوان فرأسه مرفوعة الى الأعلى الى السماء وهو مستثنى من قوام الحيوانات التي تقرب وجوهها من الأرض ، فالذي انسلخ من الهدى والعلم بدين الله أصبح كالحيوانات الذي أخلدت الى الأرض والخلود يعني المكث الدائم .

وهذا هو القسم الثاني من التشبيه بالكلب : فالتصوير بالكلب من بين الحيوانات يجمع بين ثلاث أمور :
القسم الأول :  يجمع بين أمر اللهث وأمر تدلي اللسان .
والقسم الثاني :  قوام الحيوان الذي يقرب من الأرض  وهو الأمر الثالث .

(سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ):

يقول الله تعالى : أي ما ضربناه في الذين كذبوا بآياتنا هو أقبح وأسوأ مثال حيث شبهناه بالكلب الحيوان وهم الذين ظلموا أنفسهم فجعلوها مثل الكلاب ،والتكذيب يكون بالفعل والعمل وهو أبلغ من التكذيب اللفظي .

قال ابن كثير: أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة ، فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه واتبع هواه ،صار شبيها بالكلب وبئس المثل مثله ، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه»  .

وقوله (وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ) أي ما ظلمهم الله ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى، وطاعة المولى، إلى الركون إلى دار البلى، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.

تفصيل قصة تفسير مثل الكلب  وأسباب النزول عند ائمة المفسرين : 

قال أبو جعفر الطبري : إن الله تعالى ذكره أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على قومه خبرَ رجلٍ كان الله آتاه حُجَجه وأدلته، وهي "الآيات".

وجائز أن يكونَ الذي كان الله آتاه ذلك "بلعم بن باعوراء " ، وجائز أن يكون أمية بن الصلت.
وكذلك "الآيات" إن كانت بمعنى الحجة التي هي بعض كتب الله التي أنزلها على بعض أنبيائه، فتعلمها الذي ذكره الله في هذه الآية، وعناه بها; فجائز أن يكون الذي كان أوتيها "بلعم" ، وجائز أيضا أن يكون "أُمَيّة"، لأن "أُميّة" كان فيما يقال قد قرأ من كتب أهل الكتاب.
 وإن كانت الآيات بمعنى كتاب أنزله الله على مَنْ أمر نبيَّ الله عليه الصلاة والسلام أن يتلوَ على قومه نبأه أو بمعنى اسم الله الأعظم أو بمعنى النبوّة ،
 فغير جائز أن يكون معنيًّا به "أُمية"; لأن "أمية" لا تختلف الأمة في أنه لم يكن أوتي شيئًا من ذلك .

قال الرازي: واعلم أن حاصل الفرق بين القولين: هو أن هذا الرجل في القول الأول، كان عالما بدين الله وتوحيده، ثم خرج منه،
 وعلى القول الثاني لما آتاه الله الدلائل والبينات امتنع من قبولها،
والقول الأول أولى، لأن قوله انسلخ منها يدل على أنه كان فيها ثم خرج منها، وأيضا فقد ثبت بالأخبار أن هذه الآية إنما نزلت في إنسان كان عالما بدين الله تعالى، ثم خرج منه إلى الكفر والضلال .
قلت. وهو الصواب ويؤيده:
 قوله (
واتل عليهم نبأ ) يفيد أن قريش والعرب لم يعلموه فهو ينطبق على خبر بلعام الغائب عنهم بعكس خبر أمية بن الصلت فهو من قومه وزمنه قريب منهم  وهو كقوله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) البعيد عنهم .
المثل يعمّ جميع الذين ارتدوا بعد ايمانهم وبعد هداهم الله وأعلمهم طريق الرشد والصواب :
وهذا طبقا لقاعدة في التفسير أجمع عليها العلماء : العبرة بعموم الألفاظ وليس بخصوص أسباب التزيل .

قال الرازي : فعمّ بهذا التمثيل جميع المكذبين بآيات الله ،

قال ابن عباس: يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله، ثم جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته فكذبوه،
 فحصل التمثيل بينهم وبين الكلب الذي إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث لأنهم لم يهتدوا لما تركوا ولم يهتدوا لما جاءهم الرسول فبقوا على الضلال في كل الأحوال مثل هذا الكلب الذي بقي على اللهث في كل الأحوال.

وأما قوله: (فانسلخ منها) ، فإنه يعني: خرج من الآيات التي كان الله آتاها إياه، فتبرَّأ منها.

قال ابن عباس: (فانسلخ منها) قال: نزع منه العلم.

وقوله: (فأتبعه الشيطان) ، يقول: فصيَّره لنفسه تابعًا ينتهي إلى أمره في معصية الله، ويخالف أمر ربِّه في معصية الشيطان وطاعةِ الرحمن.

وقوله: (فكان من الغاوين) ، يقول: فكان من الهالكين، لضلاله وخلافه أمر ربه، وطاعة الشيطان.

قوله: (وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ)

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شئنا لرفعنا هذا الذي آتيناه آياتنا بآياتنا التي آتيناه  (ولكنه أخلد إلى الآرض) ، يقول: سكن إلى الحياة الدنيا في الأرض، ومال إليها، وآثر لذتها وشهواتها على الآخرة (واتبع هواه)، ورفض طاعة الله وخالَف أمرَه.

قصة بلعام بن باعوراء :

وكانت قصة هذا الذي وصف الله خبرَه في هذه الآية، على اختلاف من أهل العلم في خبره وأمره،
 قال الطبري : حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا المعتمر، عن أبيه:
أنه سئل عن الآية: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) ، فحدّث عن سيار أنه كان رجلا يقال له بلعام، وكان قد أوتي النبوّة، وكان مجاب الدعوة  قال: وإن موسى أقبل في بني إسرائيل يريد الأرض التي فيها بلعام أو قال الشأم،  قال: فرُعب الناس منه رعْبًا شديدًا.
قال: فأتوا بلعام،  فقالوا: ادع الله على هذا الرجل وجيشه! قال: حتى أُوَامر ربّي أو حتى أؤامر  في الدعاء عليهم،  فقيل له: لا تدع عليهم، فإنهم عبادي، وفيهم نبيهم! 

قال: فقال لقومه: إني قد وَامَرْتُ ربي في الدعاء عليهم،  وإني قد نهيت.
 قال: فأهدوا إليه هدية فقبلها، ثم راجعوه، فقالوا: ادع عليهم!
فقال: حتى أوامر! فوامر، فلم يَحُر إليه شيء.  
قال: فقال: قد وامرت فلم يَحُرْ إليَّ شيء! فقالوا: لو كره ربك أن تدعو عليهم، لنهاك كما نهاك المرةَ الأولى.
 قال: فأخذ يدعو عليهم، فإذا دعا عليهم جَرَى على لسانه الدُّعاء على قومه; وإذا أراد أن يدعو أن يُفْتَح لقومه، دعا أن يفتَح لموسى وجيشه أو نحو من ذلك إن شاء الله.
 فقال: فقالوا ما نراك تدعو إلا علينا!
قال: ما يجري على لساني إلا هكذا، ولو دعوت عليه ما استجيب لي، ولكن سأدلّكم على أمرٍ عَسَى أن يكون فيه هلاكهم: إن الله يُبْغِض الزنا، وإنهم إن وقعوا بالزنا هلكوا، ورجوت أن يهلكهم الله، فأخرجوا النساء فليستقبلنهم، وإنهم قوم مسافرون، فعسى أن يزنُوا فيهلكوا.
قال: ففعلوا، وأخرجوا النساء يستقبلنهم. قال: وكان للملك ابنة، فذكر من عِظَمها ما الله أعلم به! قال: فقال أبوها، أو بلعام: لا تُمْكِني نفسك إلا من موسى!
قال: ووقعوا في الزنا. قال: وأتاها رأس سبط من أسباط بني إسرائيل، فأرادها على نفسه قال: فقالت: ما أنا بممكنةِ نفسِي إلا من موسى!
قال: فقال: إنّ من منزلتي كذا وكذا، وإن من حالي كذا وكذا! قال: فأرسلت إلى أبيها تستأمره،
 قال: فقال لها: فأمكنيه.
قال: ويأتيهما رجل من بني هارون ومعه الرمح فيطعنهما قال: وأيَّده الله بقوة فانتظمهما جميعًا، ورفعهما على رمحه.  قال: فرآهما الناس أو كما حدَّث.
قال: وسلط الله عليهم الطاعون. قال: فمات منهم سبعون ألفا.

القصة عند  القرطبي :

ذكر أهل الكتاب قصة عرفوها في التوراة. واختلف في تعيين الذي أوتي الآيات فقال ابن مسعود وابن عباس: هو بلعام بن باعوراء، ويقال ناعم ، من بني إسرائيل في زمن موسى عليه السلام، وكان بحيث إذا نظر رأى العرش، وهو المعني بقوله" واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا" ولم يقل آية،
وكان في مجلسه اثنتا عشرة ألف محبرة للمتعلمين الذين يكتبون عنه.
ثم صار بحيث إنه  كان أول من صنف كتابا أن" ليس للعالم صانع".
و قال مالك ابن دينار: بعث بلعام بن باعوراء إلى ملك مدين ليدعوه إلى الإيمان، فأعطاه وأقطعه فاتبع دينه وترك دين موسى، ففيه نزلت هذه الآيات

وروى  المعتمر بن سليمان عن أبيه قال: كان بلعام قد أوتي النبوة،  وكان مجاب الدعوة، فلما أقبل موسى في بني إسرائيل يريد قتال الجبارين، سأل الجبارون بلعام بن باعوراء أن يدعوا على موسى فقام ليدعو فتحول لسانه بالدعاء على أصحابه.
 فقيل له في ذلك، لا أقدر على أكثر مما تسمعون، واندلع لسانه على صدره.
فقال: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، فلم يبق إلا المكر والخديعة والحيلة، وسأمكر لكم، فإني أرى أن تخرجوا إليهم فتياتكم فإن الله يبغض الزنى، فإن وقعوا فيه هلكوا، ففعلوا فوقع بنو إسرائيل في الزنى، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفا.

 وقد ذكر هذا الخبر بكماله الثعلبي وغيره.

وروي أن " بلعام بن باعوراء دعا ألا يدخل موسى مدينة الجبارين، فاستجيب له وبقي في التيه ، فقال موسى: يا رب، بأي ذنب بقينا في التيه. فقال: بدعاء بلعام. قال: فكما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه.
فدعا موسى أن ينزع الله عنه الاسم الأعظم" .

القصة عند ابن كثير :

وقال شعبة عن يعلى بن عطاء عن نافع بن عاصم عن عبد الله بن عمرو في قوله واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا الآية قال: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت  .

وقد روي من غير وجه عنه وهو صحيح إليه وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ولكنه لم ينتفع بعلمه فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته وظهرت لكل من له بصيرة ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة قبحه الله.
وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام.

حال مَثَل الكلب وتقريره :

قال ابن كثير : قوله تعالى: (فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) اختلف المفسرون في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم عن أبي النضر أن بلعاما اندلع لسانه على صدره، فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك، ظاهر،

وقيل معناه : فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء كالكلب في لهثه في حالتيه إن حملت عليه وإن تركته هو يلهث في الحالين، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه كما قال تعالى: سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون [البقرة: 6] استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم [التوبة: 80] ونحو ذلك.
 وقيل معناه : أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو كثير الوجيب، فعبر عن هذا بهذا نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره.

قال الرازي: قال الليث: هو اللهث هو أن الكلب إذا ناله الإعياء عند شدة العدو وعند شدة الحر، فإنه يدلع لسانه من العطش.

واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخس الحيوانات هو الكلب، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث،
 فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا، وأخلد إلى الأرض، كان مشبها بأخس الحيوانات، وهو الكلب اللاهث،

وفي تقرير هذا التمثيل وجوه: الأول: أن كل شيء يلهث فإنما يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في حال الإعياء، وفي حال الراحة،
وفي حال العطش، وفي حال الري،

 فكان ذلك عادة منه وطبيعة، وهو مواظب عليه كعادته الأصلية، وطبيعة الخسيسة، لا لأجل حاجة وضرورة،

فكذلك من آتاه الله العلم والدين أغناه عن التعرض لأوساخ أموال الناس، ثم إنه يميل إلى طلب الدنيا، ويلقي نفسه فيها، كانت حاله كحال ذلك اللاهث، حيث واظب على العمل الخسيس، والفعل القبيح، لمجرد نفسه الخبيثة، وطبيعته الخسيسة، لا لأجل الحاجة والضرورة.

والثاني: أن الرجل العالم إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا، فذاك إنما يكون لأجل أنه يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها،
ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات، وتقرير تلك العبارات يدلع لسانه، ويخرجه لأجل ما تمكن في قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا، فكانت حالته شبيهة بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبدا من غير حاجة ولا ضرورة، بل بمجرد الطبيعة الخسيسة .

والثالث: أن الكلب اللاهث لا يزال لهثه البتة، فكذلك الإنسان الحريص لا يزال حرصه البتة.

و قوله تعالى( إن تحمل عليه يلهث ) فالمعنى أن هذا الكلب إن شد عليه وهيج لهث وإن ترك أيضا لهث، لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له، فكذلك هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسارة عادة أصلية وطبيعة ذاتية له.

 ( فاقصص القصص لعلهم يتفكرون ) :

يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فاقصص القصص لعلهم أي لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب في غير طاعة ربه بل دعا به على حزب الرحمن وشعب الإيمان، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران عليه السلام، ولهذا قال لعلهم يتفكرون أي يتعظون فيحذروا أن يكونوا مثله،
فإن الله قد أعطاهم علما وميزهم على من عداهم من الأعراب، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به، ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد أحل الله به ذلا في الدنيا موصولا بذل الآخرة.

أسباب نزول الآيات والقصة  عند  فخر الدين الرازي :

قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد رحمهم الله: نزلت هذه الآية في بلعم بن باعوراء، وذلك لأن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه، وغزا أهله وكانوا كفارا، فطلبوا منه أن يدعو على موسى عليه السلام وقومه، وكان مجاب الدعوة، وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه، فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليه فاستجيب له ووقع موسى وبنو إسرائيل في التيه بدعائه،
 فقال موسى: يا رب بأي ذنب وقعنا في التيه. فقال: بدعاء بلعم.
فقال: كما سمعت دعاءه علي، فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عليه أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه الله مما كان عليه ونزع منه المعرفة، فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته.
 ويقال أيضا: إنه كان نبيا من أنبياء الله، فلما دعا عليه موسى انتزع الله منه الإيمان وصار كافرا.
 وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم، وأبو روق: نزلت هذه الآية في أمية بن أبي الصلت، وكان قد قرأ الكتب، وعلم أن الله مرسل رسولا في ذلك الوقت، ورجا أن يكون هو، فلما أرسل الله محمدا عليه الصلاة والسلام حسده، ثم مات كافرا، ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «آمن شعره وكفر قبله» يريد أن شعره كشعر المؤمنين، وذلك أنه يوحد الله في شعره، ويذكر دلائل توحيده من خلق السموات والأرض، وأحوال الآخرة، والجنة والنار.

وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق كان يترهب في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد ضرار، وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وسلم، فمات هناك طريدا وحيدا، وهو قول سعيد بن المسيب.

 وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم، عن الحسن والأصم.

 وقيل: هو عام فيمن عرض عليه الهدي فأعرض عنه، وهو قول قتادة، وعكرمة، وأبي مسلم.

فإن قال قائل: فهل يصح أن يقال: إن المذكور في هذه الآية كان نبيا، ثم صار كافرا؟

قلنا: هذا بعيد، لأنه تعالى قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته [الأنعام: 124] وذلك يدل على أنه تعالى لا يشرف عبدا من عبيده بالرسالة، إلا إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد الشرف، والدرجات العالية، والمناقب العظيمة، فمن كان هذا حاله، فكيف يليق به الكفر؟

الاخلاد الى الأرض :

ثم قال تعالى: (ولكنه أخلد إلى الأرض ) قال أصحاب العربية: أصل الإخلاد اللزوم على الدوام،
وكأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض، ومنه يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به.

قال ابن عباس: ولكنه أخلد إلى الأرض يريد مال إلى الدنيا، وقال مقاتل: بالدنيا، وقال الزجاج:سكن إلى الدنيا.
 قال الواحدي: فهؤلاء فسروا الأرض في هذه الآية بالدنيا، وذلك لأن الدنيا هي الأرض، لأن ما فيها من العقار والضياع وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان مستخرج من الأرض، وإنما يقوى ويكمل بها، فالدنيا كلها هي الأرض، فصح أن يعبر عن الدنيا بالأرض،
ونقول: لو جاء الكلام على ظاهره لقيل لو شئنا لرفعناه، ولكنا لم نشأ، إلا أن قوله: ولكنه أخلد إلى الأرض لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه قوله: (واتبع هواه )،معناه: أنه أعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات واتبع الهوى، فلا جرم وقع في هاوية الردى،

أشدّ الآيات على أصحاب العلم :

 وهذه الآية من أشد الآيات على أصحاب العلم، وذلك لأنه تعالى بعد أن خصّ هذا الرجل بآياته وبيناته، وعلمه الاسم الأعظم، وخصه بالدعوات المستجابة، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب، وذلك يدل على أن كل من كانت نعم الله في حقه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى وأقبل على متابعة الهوى، كان بعده عن الله أعظم، وإليه الإشارةبقوله عليه الصلاة والسلام:

"من ازداد علما، ولم يزدد هدى لم يزدد من الله إلا بعدا "

أو لفظ هذا معناه.

...

تعليقات