حكمة الله (تحقيق وادلة)

حكمة الله    



الكلام في حكمة الله: 

هل لله حِكْمة فيما كان ويكون ؟ 

من المسلمين من أنكر وجود لله حكمة فيما يخلق ويفعل وما يقع من أحداث ، فقالوا كيف يكون له حكمة في وقوع الشّر ؟
ومن المسلمين من أثبت لله حكمة لكنهم اختلفوا.
وهل لله حكمة فيما يأمر وينهى ؟
والجهل بالشيء لا ينفي وجوده.
وهذا ما سنعرضه ونعرفه في هذا المقال

أقوال فرق المسلمين في حكمة الله :

القول الأول: " قول من نفى الحكمة " :

في مجموع الفتاوى لابن تيمية :
فقالوا هذا يفضي إلى الحاجة – أي اثبات حكمة الله-؛ فقالوا :يفعل ما يشاء لا لحكمة .
فأثبتوا له القدرة والمشيئة وأنه يفعل ما يشاء.
وهذا تعظيم ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة، وهذا قول الأشعري وأصحابه ومن وافقهم: كالقاضي أبي يعلى وابن الزاغوني والجويني والباجي ونحوهم،
وهذا القول في الأصل قول جهم بن صفوان ومن اتبعه من المجبرة .

قول الفلاسفة :

والفلاسفة لهم قول أبعد من نفي حكمة الله فيما يقع . وهو أن ما يقع من عذاب النفوس وغير ذلك من الضرر لا يمكن دفعه. فإنهم يقولون: إنه موجب بذاته وكل ما يقع هو من لوازم ذاته.
ولو قالوا إنه موجب بمشيئته وقدرته لما يفعله لكانوا قد أصابوا.
وقد قالوا أيضا الشر يقع في العالم مغلوبا مع الخير في الوجود. وهذا صحيح؛
لكن هذا يستلزم أن يكون الخالق قد خلق لحكمة معلومة تسلم ولا تعد.
وفي قول كل طائفة فيما تقدم نوع من الحق ونوع من الباطل .

القول الثاني: أن لله حكمة في كل ما خلق؛ تعود الى العباد:

فقالوا أن لله عز وجل في ذلك حكمة ورحمة فهو يخلق ويأمر لحكمة تعود إلى العباد وهو نفعهم والإحسان إليهم؛
فلم يخلق ولم يأمر إلا لذلك وهذا قول المعتزلة وغيرهم؛
ثم من هؤلاء من تكلم في تفصيل الحكمة، فأنكر القدر؛ ووضع لربه شرعا بالتعديل والتجويز، وهذا قول " القدرية ".
ومنهم من أقر بالقدر وقال: لله حكمة خفيت علينا. وهذا قول ابن عقيل، وغيره من المثبتين للقدر؛ فهم يوافقون المعتزلة على إثبات حكمة ترجع إلى المخلوق لكن يقرون مع ذلك بالقدر.

القول الثالث: من أثبت حكمة تعود إلى الرب؛ لكن بحسب علمه:

فقالوا: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه ويثنوا عليه ويمجدوه ، وهم من خلقه لذلك، وهم من وجد منه ذلك فهو مخلوق لذلك؛ وهم المؤمنون،
ومن لم يوجد منه ذلك فليس مخلوقا له.
قالوا: وهذه حكمة مقصودة وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتتها المعتزلة؛ فإنهم أثبتوا حكمة هي نفع العباد ،
ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق بل يتضرر به؛ فتناقضوا.
ونحن أثبتنا حكمة عِلْم ، أنها تقع فوقعت، وهي معرفة عباده المؤمنين به وحمدهم له؛ وثناؤهم عليه؛ وتمجيدهم له؛ وهذا واقع من المؤمنين.
قالوا: وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير،
حكمة كإنزال المطر لنفع العباد وإن تضمن ضررا لبعض الناس.
قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين وجهاد ومصالح. وهذا القول اختيار القاضي أبي خازم بن القاضي أبي يعلى ذكره في كتابه " أصول الدين " الذي صنفه على كتاب محمد بن الهيثم الكرامي.

معنى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" :

القول الأول : أي الجن والانس المؤمنين :

قالوا: وقوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} هو مخصوص بمن وقعت منه العبادة وهذا قول طائفة من السلف والخلف.
قالوا: والمراد بذلك من وجدت منه العبادة فهو مخلوق لها ومن لم توجد منه فليس مخلوقا لها؛
وعن سعيد بن المسيب قال: ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني؛ وكذلك قال الضحاك والفراء وابن قتيبة - وهذا قول خاص بأهل طاعته - قال الضحاك: هي للمؤمنين؛
وهذا قول الكرامية. كما ذكره محمد بن الهيثم. قال: ويدل عليه قوله قبل ذلك {فتول عنهم} ثم قال: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي هؤلاء المؤمنين الذين تنفعهم الذكرى.
قالوا: وهي غاية مقصودة واقعة فإن العبادة وقعت من المؤمنين وهذا القول اختيار أبي بكر بن الطيب؛ والقاضي أبي يعلى وغيرهما ممن يقول: إنه لا يفعل لعلة.
قالوا: - واللفظ للقاضي أبي يعلى - هذا بمعنى الخصوص لا العموم؛ لأن البله والأطفال والمجانين لا يدخلون تحت الخطاب. وإن كانوا من الإنس. وكذلك الكفار يخرجون من هذا ،بدليل قوله: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} الآية. فمن خلق للشقاء ولجهنم لم يخلق للعبادة.

قال ابن تيمية : قول هؤلاء الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول الجهمية والمعتزلة فيما أثبتوه من حكمة الله؛ وقولهم في تفسير الآية وإن وافقوا فيه بعض السلف. فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور ولما تدل عليه الآية.
فإن قصد العموم ظاهر في الآية وبين بيانا لا يحتمل النقيض إذ لو كان المراد المؤمنين فقط لم يكن فرق بينهم وبين الملائكة؛ فإن الجميع قد فعلوا ما خلقوا له

ولم يذكر الإنس والجن عموما.
ولم تذكر الملائكة مع أن الطاعة والعبادة وقعت من الملائكة دون كثير من الإنس والجن.
فإذا قال بعد ذلك: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} كان هذا مناسبا لما تقدم مؤتلفا معه: أي هؤلاء الذين أمرتهم إنما خلقتهم لعبادتي ما أريد منهم غير ذلك لا رزقا ولا طعاما.

فإذا قيل: لم يرد بذلك إلا المؤمنين كان هذا مناقضا لما تقدم يعني في السورة وصار هذا كالعذر لمن لا يعبده ممن ذمه الله ووبخه ،وغايته يقول: أنت لم تخلقني لعبادتك وطاعتك ولو خلقتني لها لكنت عابدا وإنما خلقت هؤلاء فقط لعبادتك وأنا خلقتني لأكفر بك وأشرك بك وأكذب رسلك وأعبد الشيطان وأطيعه وقد فعلت ما خلقتني له كما فعل أولئك المؤمنون ما خلقتهم له فلا ذنب لي ولا أستحق العقوبة؛
فهذا وأمثاله مما يلزم أصحاب هذا القول وكلام الله منزه عن هذا وهم إنما قالوا هذا؛ لأن الله تعالى فعال لما يريد، قالوا فلو كان أراد منهم أن يطيعوه لجعلهم مطيعين كما جعل المؤمنين.

والقدرية يقولون: لم يرد من هؤلاء ولا هؤلاء إلا الطاعة؛ لكن هو لم يجعل لا هؤلاء ولا هؤلاء مطيعين؛ بل الإرادة بمعنى الأمر يأمر بها الطائفتين فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم ،وهؤلاء عصوه بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم.
وأولئك علموا فساد قول القدرية من جهة أن الله خالق كل شيء وربه ومليكه وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا يكون في ملكه إلا ما شاءه ولا يكون في ملكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته كما دل على ذلك السمع والعقل،
وهذا مذهب الصحابة قاطبة وأئمة المسلمين وجمهورهم وهو مذهب أهل السنة؛ فلأجل هذا عدل أولئك في تفسير الآية إلى الخصوص فإنهم لم يمكنهم الجمع بين الإيمان بالقدر وبين أن يكون خلقهم لعبادته فلم تقع منهم العبادة له ،وقالوا: من ذرأه لجهنم لم يخلقه لعبادته، فمن قال خلق الخلق ليعبده المؤمنون منهم سلك هذا المسلك .

وأما " نفاة الحكمة ": كالأشعري وأتباعه كالقاضي أبي بكر وأبي يعلى وغيرهم فهؤلاء أصلهم:

أن الله لا يخلق شيئا لشيء ،فلم يخلق أحدا لا لعبادة ولا لغيرها ،
وعندهم ليس في القرآن لام "كي" لكن قد يقولون في القرآن لام العاقبة كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا}،
وكذلك يقولون في قوله: {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس} يعنون كان عاقبة هؤلاء جهنم وعاقبة المؤمنين العبادة من غير أن يكون الخالق قصد أن يخلقهم لا لهذا ولا لهذا ولكن أراد خلق كل ما خلقه لا لشيء آخر،

الجواب على نفاة الحكمة :

فهذا قولهم وهو ضعيف لوجوه:
(أحدها) : أن لام العاقبة التي لم يقصد فيها الفعل لأجل العاقبة إنما تكون من جاهل أو عاجز، فالجاهل كقوله: {فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا} لم يعلم فرعون بهذه العاقبة ،
والعاجز كقولهم: لدوا للموت وابنوا للخراب. فإنهم يعلمون هذه العاقبة؛ لكنهم عاجزون عن دفعها ،
والله تعالى عليم قدير فلا يقال: إن فعله كفعل الجاهل العاجز.
(الثاني ): أن الله أراد هذه الغاية بالاتفاق، فالعبادة التي خلق الخلق لأجلها هي مرادة له بالاتفاق، وهم يسلمون أن الله أرادها وحيث تكون اللام للعاقبة لا يكون الفاعل أراد العاقبة وهؤلاء يقولون خلقهم وأراد أفعالهم وأراد عقابهم عليها ، فكلما وقع فهو مراد له؛
ولكنه عندهم لا يفعل مرادا لمراد أصلا لأن الفعل للعلة يستلزم الحاجة ، وهذا ضعيف.

القول الثاني : "ليعبدون " أي عبيد قهر :

وطائفة أخرى قالوا: هي على العموم لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم وقهره لهم ونفوذ قدرته ومشيئته فيهم وأنه أصارهم إلى ما خلقهم له من السعادة والشقاوة هذا جواب زيد بن أسلم وطائفة وهذا القول الثاني في تفسير الآية.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن جريج عن زيد بن أسلم في قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قال جبلهم على الشقاوة والسعادة ،
 ومن فسر هذه الآية بأن المراد بيعبدون هو ما جبلهم عليه وما قدره عليهم من السعادة والشقاوة .
فإن هؤلاء جعلوا معنى "يعبدون " بمعنى يستسلمون لمشيئتي وقدرتي فيكونون معبدين مذللين كي يجري عليهم حكمي ومشيئتي لا يخرجون عن قضائي وقدري فهذا معنى صحيح في نفسه وإن كانت القدرية تنكره.
فبإنكارهم لذلك صاروا من أهل البدع ، بل الله خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ،
وفي استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم {أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما ذرأ وبرأ وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده} . فكلماته التامة هي التي كون بها الأشياء كما قال تعالى. {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} لا يجاوزها بر ولا فاجر ولا يخرج أحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
لكن قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} لم يرد به هذا المعنى الذي ذهبوا إليه وحاموا حوله - من أن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره وحكمه. فالمخلوقات كلها داخلة في هذا لا يشذ منها شيء عن هذا.
وقد قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} {وأن اعبدوني} الآية. وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله} ،
فهذا ونحوه كثير في القرآن، لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل وهي عبادته وحده لا شريك له،
والمشركون لا يعبدون الله بل يعبدون الشيطان وما يدعونه من دون الله، سواء عبدوا الملائكة أو الأنبياء والصالحين أو التماثيل والأصنام المصنوعة؛
فهؤلاء المشركون قد عبدوا غير الله تعالى كما أخبر الله بذلك،
فكيف يقال: إن جميع الإنس والجن عبدوا الله؟
لكون قدر الله جاريا عليهم ، والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم واختيارهم وإخلاصهم الدين له وطاعة رسوله ،
وبين أن يعبدهم هو وينفذ فيهم مشيئته وتكون عبادتهم لغيره: للشيطان وللأصنام من المقدور.
وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى فيجعل كلما يقع طاعة كما جعله هؤلاء عبادة لله تعالى لكونهم تحت المشيئة وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان عصى الأمر فقد أطاع المشيئة لكن هؤلاء مباحية يسقطون الأمر،
وأما زيد بن أسلم ووهب بن منبه ونحوهم فحاشاهم من مثل هذا؛ فإنهم كانوا من أعظم الناس تعظيما للأمر والنهي والوعد والوعيد ولكن قصدوا الرد على المكذبين بالقدر القائلين: بأنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء.
وهؤلاء حقيقة قولهم: إنه لا يقدر على تعبيدهم وتصريفهم تحت مشيئته فأرادوا إبطال قول هؤلاء ونعم ما أرادوا لكن الكلام فيما أريد بالآية.

وقد قصد هذا طائفة فسروا العبادة بأمر واقع عام وليست هي العبادة المأمور بها على ألسن الرسل ففي تفسير ابن أبي طلحة المضاف إلى ابن عباس:
إلا ليقروا بالعبودية طوعا وكرها وهذه العبودية كقوله: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} وقوله: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ،وفسرت طائفة " الكره " بأنه جريان حكم القدر فيكون كالقول قبله،
والصحيح أنه انقيادهم لحكمه القدري بغير اختيارهم، كاستسلامهم عند المصائب وانقيادهم لما يكرهون من أحكامه الشرعية فكل أحد لا بد له من انقياده لحكمه القدري والشرعي فهذا معنى صحيح، قد بسط في غير هذا الموضع لكن ليس هو العبادة.

القول الثالث: إلا للتذلل والخضوع :

وكذلك قال بعضهم: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا ، قالوا: ومعنى العبادة في اللغة - التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى متذلل لمشيئته. لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق.
 وقد ذكر أبو الفرج قول ابن عباس هذا. قال: وبيان هذا قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وهذه الآية توافق من قال: إلا ليعرفون؛ كما سيأتي. وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم لم يقروا بذلك كرها بخلاف إسلامهم وخضوعهم له فإنه يكون كرها وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا.

و " قول رابع " العبادة نوعان :

روى ابن أبي حاتم عن زائدة عن السدي: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قال: خلقهم للعبادة فمن العبادة عبادة تنفع ومن العبادة عبادة لا تنفع {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع شركهم وهذا المعنى صحيح لكن المشرك يعبد الشيطان وما عدل به الله لا يعبد ولا يسمى مجرد الإقرار بالصانع عبادة لله مع الشرك بالله ولكن يقال كما قال: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فإيمانهم بالخالق مقرون بشركهم به ،
وأما العبادة ففي الحديث {يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله الذي أشرك} فعبادة المشركين وإن جعلوا بعضها لله لا يقبل منها شيئا بل كلها لمن أشركوه. فلا يكونون قد عبدوا الله سبحانه .

و " قول خامس " : أي إلا ليعرفون :

ذكره ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: ليعرفون قال: وروي عن قتادة وذكره البغوي عن مجاهد. قال: وقال مجاهد إلا ليعرفون. قال: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، ودليله قوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} فيقال: هذا المعنى صحيح؛
وكونه إنما عرف بخلقهم يقتضي أن خلقهم شرط في معرفتهم لا يقتضي أن يكون ما حصل لهم من المعرفة هو الغاية التي خلقوا لها وهذا من جنس قول السدي؛ فإن هذا الإقرار العام هم مشركون فيه كما قال: {وإذ أخذ ربك من بني آدم} لكن ليس هذا هو العبادة.
فهذه " الأقوال الأربعة ": قول من عرف أن الآية عامة فأراد أن يفسرها بعبادة تعم الإنس والجن واعتقد أنه (إن فسرها بالعبادة المعروفة وهي الطاعة لله والطاعة لرسله لزم أن تكون واقعة منهم ولم تقع؛ فأراد أن يفسرها بعبادة واقعة وظن أنه إذا فسرها بعبادة لم تقع لزمه قول القدرية وأنه خلقهم لعبادته فعصوه بغير مشيئته وغير قدرته ففروا من قول القدرية وهم معذورون في هذا الفرار؟ ،لكن فسرها بما لم يرد بها .

و " القول السادس " : أي إلا لآمرهم بالعبادة :
وهو ما عليه جمهور المسلمين:

أن الله خلقهم لعبادته وهو فِعْل ما أمروا به ، ولهذا يوجد المسلمون قديما وحديثا يحتجون بهذه الآية على هذا المعنى حتى في وعظهم وتذكيرهم وحكاياتهم كما في حكاية إبراهيم بن أدهم؛ ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت؛
وفي حديث إسرائيلي: {يا ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وتكلفت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء؛ وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء}،
وهذا هو المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ وغيره من السلف ،قال: إلا لآمرهم أن يعبدون وأدعوهم إلى عبادتي.

قالوا: ويؤيده قوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين} وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا}، وهذا اختيار الزجاج وغيره.
وهذا هو المعروف عن مجاهد بالإسناد الثابت؛ قال ابن أبي حاتم: ثنا أبو سعيد الأشج ثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} "لآمرهم وأنهاهم " ،
كذلك روي عن الربيع بن أنس قال: " ما خلقتهما إلا للعبادة ".
ويدل على هذا مثل قوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} يعني لا يؤمر ولا ينهى ،
وقوله: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} أي لولا عبادتكم ،
وقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} الآيات وما بعدها.
وقد قال في القرآن في غير موضع: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} {يا أيها الناس اتقوا ربكم} ،
فقد أمرهم بما خلقهم له وأرسل الرسل إلى الإنس والجن، فهذا هو المعنى الذي قصد بالآية قطعا وهو الذي تفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه؛ ويعترفون بأن الله خلقهم ليعبدوه، لا ليضيعوا حقه،
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: الله ورسوله أعلم،
قال: فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا،
أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم} .

القول المختار : إلا للعبادة الواجبة :

أقول ان القول المختار هو قول الربيع بن أنس وهو من القول الخامس قول الجمهور : أي للعبادة .
وهو قول يبنى على أصل جواز أن الفعل المضارع يريد به المصدر ، فعل : يعبدون ، يراد المصدر "العبادة ".

فمعنى قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) أي للعبادة الواجبة والمكلفة ، ويدل عليه قوله بعدها " ما أريد منهم من رزق " ، الشاهد :" ما أريد".، فهي ارادة الأمر والوجوب والقضاء .
فالسيد الذي اشترى مملوكا ليكون له عبدا ، إنما أراد بهذا الشراء والملكية هو أن يعمل له هذا المملوك ،
لكن عمل عباد الله غير عمل عباد المماليك للملوك ،
فعمل عباد الله المراد هو التحميد والثناء والرضا والحب ،
أما عمل العبيد للسادة فهو الفلاحة أو الصناعة والتجارة أو الخدمة أو غيرها .

الله الحكيم ذو الحكمة :

من دلائل أنّ لله حكمة أن من أسمائه الحسنى ، اسم " الحكيم "
فكما الله رحيم ذو الرحمة وعليم ذو العلم وقدير ذو القدرة كذلك فهو الحكيم ذو الحكمة .

معنى اسم الله تعالى " الحكيم " :

قَالَ الحليميّ : مَعْنَى الْحَكِيمِ : الذي لا يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ إِلاَّ الصَّوَاب ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ لأَنَّ أَفْعَالَهُ سَدِيدَةٌ ، وَصُنْعَهُ مُتْقَنٌ.
وقال الطبري في التفسير: وهو الحكيم في تدبير خلقه ، وتسخيرهم لما يشاء ، العليم بمصالحهم.
وقال ابن كثير: حكيم في أقواله وأفعاله.
قالت الملائكة لله في خلق آدم ( انك انت العليم الحكيم ) قال ابن كثير : الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام
الحكيم الذي خلق الناس وهو يعلم ان سيكون فيهم المفسد وسافك الدماء والعصاة .
والحكيم أي المصيب في أفعاله " .
قلت . قد علم أبينا وابو الأنبياء ابراهيم وابنه حكمة الله حين دعوا ربهما : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، فهو الحكيم ذو الحكمة يؤتيها من يشاء من عباده .
فهو العليم سبحانه الذي يعلم مخلوقاته العلم ،
وهو الحكيم الذي يؤتي ويعلم مخلوقاته الحكمة .
قال ابن القيم : الحكيم من أسمائه الحسنى ، والحكمة من صفاته العلى والشريعة الصادرة عن امره مبناها على الحكمة .
قلت . قال تعالى : يدبر الأمر ، وهل يدبر إلا من له الحكمة والعلم .
والحكمة ضد الهوى والسفاهة .

ثمرة معرفة أن لله حكمة :

فإذا علم العبد أن الحكيم - سبحانه - هو المدبر للأمور المتقن لها والموجد لها على غاية الإحكام والإتقان والكمال، والواضع للأشياء في مواضعها، والعالم بخواصها ومنافعها الخبير بحقائقها ومآلاتها..
فإذا عرف العبد ذلك وتيقن هذا المعنى وأن كل ما يجري في هذا الكون هو لحكمة بالغة أرادها الله تبارك وتعالى- علِمَ هذه الحكمة من علمها وجهلها من جهلها- كان لهذه المعرفة الأثر البالغ في حياته وتصرفاته ونظرته للكون والحياة ، وعاش مطمئن القلب قرير العين مفوضا الأمر كله إلى الله تعالى متقنا لعمله محسنا لعبادته،
ومتيقنا أن كل ما يجري في الكون والحياة هو من تقدير الحكيم العليم اللطيف الخبير الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.

أشكال حكمة الله

1-حكمة الله في شرعه

قال تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (البقرة)
وقال (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي ) ،
وقال (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) .

2-حكمة الله في قدره

وقال تعالى : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام].

3-حكمة الله في خلقه ومخلوقاته

وقال تعالى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا (ص)
قال الطبري : فيتيقنوا بذلك أنه لا يخلق شيئا باطلا .

4-جكمة الله في الابتلاء

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ (آل عمران )
قال الطبري : "ليبتليكم"، يقول: ليختبركم، فيتميز المنافق منكم من المخلص الصادق في إيمانه منكم.
وصل اللهم على نبيك محمد وآله وسلم تسليما كثيرا .








تعليقات