روضة العقلاء ( الزجر عن التحاسد )


الحسد


تهذيب روضة العقلاء ونزهة الفضلاء :

التحاسد وحقيقة الحسد :

علاقة التحاسد والاخوة :

أقول : الاخوة الحقيقية هي عدم التحاسد ، فترى الشقيقان أو الصديقان أو الصاحبان أو الزميلان يخالط أحدهما آخر في المأكل والمشرب والملاهي والأعياد ومجالس الذكر والفكر،
بينما أحدهما يضمر للآخر شيئا من الحسد .
والحسد لا يختص بكثرة مال أو منصب وجاه أو حسن وجمال أو تفوق في مسألة ، بل هو يعمّ الأمور كلها، كبيرها وصغيرها ، حتى في رداء أو مسبحة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.



الفرق بين الحسد والتحاسد :

وأقول : الحسد يكون من طرف لآخر ، وأما التحاسد فهو من التفاعل فيكون متبادلا بين الطرفين الإثنين .
وأكثر ما يقال في الخطب وعلى المنابر وفي الكتب والمقالات يكون في الحسد ، وقليل من ينبه على أمر التحاسد الذي انتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم .
والحسد أعمّ في حقيقته وتعريفه  الذي ذكره الفقهاء وهو تمني زوال النعمة ،
فأصل الحسد هو التطلع الى حظوظ الغير ، فيحمل الناس على التنافس والغيرة ثم يتنامى ويزيد شدة الى مرتبة تمني زوال حظ الغير .
وليس بالضرورة ان يكون الحسد مثل حسد بني يعقوب لأخيهم يوسف فيحملهم على المكيدة ، أو أعمال الشعوذة والسحر وهلاك المحسود ،
بل هو يكون موجودا ومخالطا بين المحبين وفي أشكال مختلفة ،لكنك تجده وتعرفه بآمارات لطيفة تكاد ان تكون مخفية ،
فتجد مثلا صديقاً دائم اللوم والعتاب لك فلا تكاد تقابله إلا واجهك بالملام والعتاب ،
" انت ما بتسألش عليّ" و " انت ما عزمتنيش مع فلان " و" انت ما قلتيش على كذا " و" انت مافكرتنيش بكذا " ،
والسّر في كثرة هذا الملام هو أنه في باطنه يحسدك في بعض الأمور ، وزي ما بنقول في العامية " تلكيكة ".

معنى الحديث : لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار.

أقول : دأب شرّاح الحديث بأن الحسد هنا مجازي وأن معناه الغبطة ،
ورأيي الخاص : أن الحديث على ظاهره فمعناه انتفاء الحسد حيث انعدم الشيء المسبب للحسد ، فالمال الذي بسببه حسده الحاسدون قد ذهب ولا وجود له ، فلا مجال حينئذ للحسد ،
فأنت مثلا تحسد صاحب المال على قصره أو سيارته أو حصانه ، فاذا انعدم القصر واكتفى ببيت متواضع ،
وسيارته قد راحت للغير ، وأوقف الحصان في سبيل الله ، فأين اذن المال الذي يدفع لحسد الغير ؟

التنافس والمنافسة :

وأقول أيضا : يغلط بعض الفقهاء والفضلاء في استحسان المنافسة ، وهم لا يدرون أنها شقيقة الحسد وملازمة له أو هي أثر من آثاره ، ويظنون أنها من قوله تعالى:
" وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " المطففين ، فالآية تحث على التنافس على شيئ غير مرئي للناس ولا وجود له في الدنيا ،
بعكس الذين يتنافسون على مباهج وزينة الحياة الدنيا ، وفي الحديث النبوي رواه مسلم في صحيحه :
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ "
قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك،
" تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون"، أو نحو ذلك.
وفي رواية " فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " .

قول أَبُو حاتم البستي في الحسد :

الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها ،
فإن أهون خصال الحسد ،هو ترك الرضا بالقضاء وإرادة ضد مَا حكم اللَّه جل وعلا لعباده،
ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عَن المسلم ،
والحاسد لا تهدأ روحه ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عَن أخيه ، وهيهات أن يساعد القضاء مَا للحساد في الأحشاء
وأنشدني مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن حبيب الواسطي :
أعذر حسودك فيما قد خصصت به ... إن العلي حسن في مثله الحسد
إن يحسدوني فإني لا ألومهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم مَا بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
أنا الذي وجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منهم ولا أرد

وأنشدني ابن بلال الأنصاري :
عين الحسود عليك الدهر حارسة ... تبدى مساويك والإحسان يخفها
فاحذر حراستها واحذر تكشفها ... وكن على قدر مَا توليك توليها ..

أقوال السلف في الحسد :

وعن عمر بن الخطاب : مَا مِنْ أحد عنده نِعْمَةٌ إِلا وَجَدْتَ لَهُ حَاسِدًا ، وَلَوْ كَانَ الْمَرْءُ أَقْوَمَ مِنَ الْقَدَحِ، لَوَجَدْتَ لَهُ غَامِزًا.

قَالَ ابن سيرين : مَا حسدت أحدا على شيء من الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى الجنة ،وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى النار .
وعنه : مَا حسدت أحدا على دين ولا دنيا.
الحسد من أخلاق اللئام وتركه من أفعال الكرام ولكل حريق مطفيء ونار الحسد لا تطفأ.
والحسد هو اسم يقع على إرادة زوال النعم عَن غيره وحلولها فيه فأما من رأى الخير في أخيه وتمنى التوفيق لمثله أو الظفر بحاله وهو غير مريد لزوال مَا فيه أخوه فليس هذا بالحسد الذي ذم ونهي عنه
ولا يكاد يوجد الحسد إلا لمن عظمت نعمة اللَّه عَلَيْهِ فكلما أتحفه الله بترداد النعم ازداد الحاسدون له بالمكروه والنقم

إماتة الحسد :

قال ابو حاتم : فالعاقل يكون على إماتة الحسد بما قدر عَلَيْهِ أحرص منه على تربيته ولا يجد لإماتته دواء أنفع من البعاد فإن الحاسد ليس يحسدك على عيب فيك ولا على خيانة ظهرت منك ولكن يحسدك بما ركب فيه من ضد الرضا بالقضاء .

حسد الأقران :

يقول أبو حاتم : وأكثر مَا يوجد الحسد بين الأقران أو من تقارب الشكل لأن الكتبة لا يحسدها إلا الكتبة كما أن الحجبة لا يحسدها إلا الحجبة ولن يبلغ المرء مرتبة من مراتب هذه الدنيا إلا وجد فيها من يبغضه عليها أو يحسده فيها والحاسد خصم معاند لا يجب للعاقل أن يجعله حكما عند نائبة تحدث فإنه إن حكم لم يحكم إلا عَلَيْهِ وإن قصد لم يقصد إلا له وإن حرم لم يحرم إلا حظه وإن أعطى أعطى غيره وإن قعد لم يقعد إلا عنه وإن نهض لم ينهض إلا إليه وليس للمحسود عنده ذنب إلا النعم التي عنده ،
فليحذر المرء مَا وصفت من أشكاله وأقرانه وجيرانه وبنى أعمامه .
وما رأيت حاسدا سالم أحدا .

من علامات الحاسد والحسد :

والحاسد إذا رأى بأخيه نعمة بهت ، وإن رأى به عثرة شمت ، ودليل مَا في قلبه كمين على وجهه مبين ،
والحسد داعية إلى النكد ، ألا ترى إبليس حسد آدم فكان حسده نكدا على نفسه فصار لعينا بعدما كان مكينا .
عن ابن عائشة قَالَ قَالَ بعض الحكماء : ألزم الناس للكآبة أربعة : رجل حديد، ورجل حسود ، وخليط للأدباء وهو غير أديب ، وحكيم محتقر للأقوام.
قيل : من الحسد يتولد الحقد ، والحقد أصل الشر ، ومن أضمر الشر في قلبه أنبت له نباتا مُرّاً مذاقه ، نماؤه الغيظ وثمرته الندم .

الإيثار يقتل الحسد :

في الختام أقول : الأثرة والحسد متناقضان وبينهما علاقة عكسية، و فضيلة الإيثار تكاد تنقرض في هذا الزمان بسبب انتشار التحاسد ، وأن تؤثر أخيك أو صاحبك أو جارك بالأحسن فهو من قبيل الأساطير ،
ولكي تقتل الحسد في نفسك ونفس أخيك فعليك بالايثار ، حيث أن الحسد بسبب الأفضل ، فاذا أنت آثرت غيرك بالأفضل فلا مجال حينئذ للحسد.
نجانا الله واياكم من التحاسد .




تعليقات