اعتزال الناس

 

اعتزال الناس   

ذكر استحباب الاعتزال من الناس عاما :

قال أَبُو حاتم  البستي في روضة العقلاء  ونزهة الفضلاء  : الواجب على العاقل لزوم الاعتزال عَن الناس عاما مع توقي مخالطتهم ،
إذ الاعتزال من الناس لو لم يكن فيه خصلة تحمد إلا السلامة من مقارفة المأثم لكان حقيقا بالمرء أن لا يكدر وجود السلامة بلزوم السبب المؤدي إلى المناقشة

روي عَنْ عمر بن الخطاب قَالَ : خُذُوا بِحَظِّكُمْ مِنَ الْعُزْلَةِ .

قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه: العاقل لا يستعبد نفسه لأمثاله بالقيام في رعاية حقوقهم والتصبر على ورود الأذى منهم مَا وجد إلى ترك الدخول فيه سبيلا لأنه إذا حسم عن نفسه ترك الاختلاط بالعالم والمخالطة بهم تمكن من صفاء القلب وعدم تكدر الأوقات في الطاعات،

استعمل العزلة جماعة من المتقدمين مع العام والخاص معا.

عن حامد بْن يَحْيَى البلخي قَالَ سمعت سُفْيَان بْن عيينة يقول: رأيت الثوري في المنام ،فقلت له: أوصني .
فقال: أقل معرفة الناس، أقل معرفة الناس 
.

وعن بكر مُحَمَّد العابد يقول قَالَ لي داود الطائي : يا بكر استوحش من الناس كما تستوحش من السبع.
وعن عَبْد العزيز بْن الخطاب قال : رؤى إلى جنب مالك بْن دينار كلب عظيم ضخم أسود رابض، فقيل له يا أبا يَحْيَى ألا ترى هذا الكلب إلى جنبك.
 قَالَ :هذا خير من جليس السوء
.
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه :هذا الذي ذهب إليه داود الطائي وضرباؤه من القراء من لزوم الاعتزال من الخاص كما يلزمهم ذلك من العام أرادوا بذلك عند رياضة الأنفس على التصبر على الوحدة وإيثار ضد الخلطة على المعاشرة ،
فإن المرء متى لم يأخذ نفسه بترك مَا أبيح له فأنا خائف عَلَيْهِ الوقوع فما حظر عَلَيْهِ.

الأسباب التي توجب العزلة : 

" وأما السبب الذي يوجب الاعتزال عَن العالم كافة فهو مَا عرفتهم به من وجود دفن الخير ونشر الشر، يدفنون الحسنة ويظهرون السيئة .فإن كان المرء عالِماً بدّعُوه، وإن كان جاهلا عيّروه ،وإن كان فوقهم حسدوه، وإن كان دونهم حقروه، وإن نطق، قالوا مهذار ،
وإن سكت، قالوا عييٌ، وإن قدر قالوا مقتّر، وإن سمح قالوا مبذّر،
 فالنادم في العواقب المحطوط عَن المراتب من اغترّ بقومٍ هذا نعتهم وغره ناس هذه صفتهم " .
وقال أحدهم : صحبت الناس خمسين سنة فلم أجد أحداً ستر لي عورة ولا وصلني إذا قطعته ولا أمنته إذا غضب فالاشتغال بهؤلاء حمق كثير
.
 وعن أبي ذر قال :  كَانَ النَّاسُ وَرَقًا لا شَوْكَ فِيهِ ، فَهُمُ الْيَوْمَ شَوْكٌ لا وَرَقَ فِيهِ .
وعن القحذمي ينشد  :
 
... ذهب الحسن والجمال من الناس ... ومات الذين كانوا ملاحا

وبقى الأسمجون من كل صنف ... إن في الموت من أولئك راحا

قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : العاقل يعلم أن البشر مجبولون على أخلاق متباينة وشيم مختلفة ،فكل واحد يحب اتباع مساعدته وترك مباعدته،
 فمتى رام من أخيه ضد مَا وطن نفسه عَلَيْهِ قلاه ، وإذا تبين له منه خلاف مَا أضمر عَلَيْهِ قلبه مله ، ومن الملال يكون الاستثقال ومن الاستثقال يكون البغض ومن البغض تهيج العداوة فالآشتغال هذا بمن نعته للعاقل حمق.
عَن سَعِيد بْن عَبْد العزيز قَالَ قَالَ مكحول : إنْ كان في مخالطة الناس خير،  فالعزلة أسلم.

وعن مُحَمَّد بْن روح قَالَ سمعت إِبْرَاهِيم البخاري يقول : دخلت المسجد الحرام بعد المغرب فإذا فضيل جالس فجئت فجلست إليه .
فقال من هذا ؟
فقلت: إِبْرَاهِيم.
 قَالَ: مَا جاء بك ؟
قلت :رأيتك وحدك فجلست إليك.
 قَالَ :تحب أن تغتاب أو تتزين أو ترائي .
 قلت لا .
قَالَ : قم عني.

 فضل المعتزل بعد المجاهد في سبيل الله :

أخرج البخاري في صحيحه :
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني عطاء بن يزيد الليثي، أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، حدثه قال:
قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»،
قالوا: ثم من؟
قال:  " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره " .

أخرجه مسلم  قال :

حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا يحيى بن حمزة، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري، 

أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس أفضل؟

فقال: «رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه»،

قال: ثم من؟

 قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه، ويدع الناس من شره

وقال مسلم :
حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد، قال:

قال رجل: أي الناس أفضل؟ يا رسول الله،

 قال: «مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله»،

 قال: ثم من ؟

قال: ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ .

شرح الحديث : قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري :
 

 وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا وهو مقيد بوقوع الفتن.

 قوله ( مؤمن في شعب)  في رواية مسلم من طريق معمر عن الزهري رجل معتزل.
 قوله ( يتقي الله) في رواية مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري " يعبد الله".

 وفي حديث ابن عباس : معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس".
 وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك ،
وأما اعتزال الناس أصلا فقال الجمهور محل ذلك عند وقوع الفتن كما سيأتي بسطه في كتاب الفتن ويؤيد ذلك رواية بعجة بن عبد الله عن أبي هريرة مرفوعا يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس الا من خير أخرجه مسلم وابن حبان من طريق أسامة بن زيد الليثي عن بعجة .
قال بن عبد البر إنما أوردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليا من الناس فكل موضع يبعد على الناس فهو داخل في هذا المعنى .
وقال الامام النووي في شرح صحيح مسلم :
فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط وفي ذلك خلاف مشهور :
فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ، ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل،
 وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص ،
وقد كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك .
وأما الشعب :فهو ما انفرج بين جبلين. وليس المراد نفس الشعب خصوصا بل المراد الانفراد والاعتزال وذكر الشعب مثالا لأنه خال عن الناس غالبا،
 وهذا الحديث نحو الحديث الآخر حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة. فقال : أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك
.
..


تعليقات