|
روضة العقلاء |
كتاب تهذيب العَشْر النبلاء من روضة العقلاء :
كتاب "روضة العقلاء ونزهة الفضلاء " تأليف الامام أبو حاتم البستي (ابن حبان ) وهو كتاب يصفه صاحبه بأنه تذكرة للعقلاء والمؤنس لهم والمعين،
قمت بتهذيبه واختصاره في عشرة فصول ، أو عشرة خصال ،
وانتقيت الفصول التي تبين معاني العقل وصفة العقلاء أو الجهلاء وكيف يبلغ المرء بعقله الى مرتبة الألباء و العقلاء وما يقرب لتحقيق غاية ما كتب من أجله. وهي كالتالي :
1- صفة العاقل اللبيب .
2- صفة الأحمق والجاهل .
3- العلم والعلماء.
4- صفة الصمت .
5- صفة التواضع .
6-التحبب الى الناس وكراهية معاداة الناس .
7- الاعتزال .
8- زجر التحاسد .
9- السياسة والرياسة .
10- صفة الكريم واللئيم .
ترجمة ابْنُ حِبَّانَ:
مُحَمَّدُ بنُ حِبَّانَ بنِ أَحْمَدَ التَّمِيْمِيُّ :
هو أَبُو حَاتِمٍ التَّمِيْمِيُّ الدَّارِمِيُّ البُسْتِيُّ، الإِمَامُ العَلاَّمَةُ الحَافِظُ المُجَوِّدُ، شَيْخُ خُرَاسَانَ،
صَاحبُ الكُتُبِ المَشْهُوْرَةِ: (صحيح ابن حبان ) وكتاب (تاريخ الثقات ) وكتاب (الضعفاء) ، سَمِعَ الحديث بِمِصْرَ مِنْ : أَبِي عبدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيِّ ،
وحَدَّثَ عَنْهُ: أَبُو عَبْدِ اللهِ بنُ مَنْدَةَ، وَأَبُو عَبْدِ اللهِ الحَاكِمُ .
وَقَالَ الحَاكِمُ: كَانَ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ أَوعيةِ العِلْمِ فِي الفِقْهِ، وَاللُّغةِ، وَالحَدِيْثِ، وَالوعظِ، وَمِنْ عقلاَءِ الرِّجَالِ.
توفي ابن حبان بسجستان بمدينة بست في شوال سنة 354 هجرية.
(1- العاقل ومعنى العقل ):
مقدمة ابو حاتم البستي (ابن حبان) في روضة العقلاء :
أما بعد فإن الزمان قد تبين للعاقل تَغَيُّره ، ولَاحَ للبيب تَبدُّله حيث يَبِس ضَرْعه بعد الغزارة ،وذبل فرعه بعد النضارة ،ونحِل عُوده بعد الرطوبة ،
وبشع مَذاقه بعد العذوبة، فنبع فيه أقوام يدعون التمكن من العقل باستعمال ضد مَا يوجب العقل من شهوات صدورهم ، وترك مَا يوجبه نفس العقل بهجسات قلوبهم جعلوا أساس العقل الذي يعقدون عَلَيْهِ عند المعضلات :
" النفاق والمداهنة وفروعه عند ورود النائبات، وحسن اللباس والفصاحة "،
وزعموا أن من أحكم هذه الأشياء الأربع فهو العاقل الذي يجب الاقتداء به ومن تخلف عَن إحكامها فهو الأنْوَك الذي يجب الإزورار عنه. فلما رأيت الرعاع من العالَم يغترون بأفعالهم ، والهمج من الناس يقتدون بأمثالهم ، دعاني ذلك إلى تصنيف كتاب خفيف يشتمل متضمنه على معنى لطيف مما يحتاج إليه العقلاء في أيامهم من معرفة الأحوال في أوقاتهم ليكون كالتذكرة لذوي الحِجَى عند حضرتهم وكالمعين لأولى النُهَى عند غيبتهم يفوق العالم به أقارنه والحافظ له أترابه يكون النديم الصادق للعاقل في الخلوات والمؤنس الحافظ له في الفلوات إن خص به من يجب من إخوانه لم يفتقده من ديوانه،
وإن استبد به دون أوليائه فاق به على نظرائه ،
أُبين فيه مَا يحسن للعاقل استعماله من الخصال المحمودة ويقبح به إتيانه من الخلال المذمومة مع القصد في لزوم الاقتصار وترك الإمعان في الإكثار ليخفّ على حامله وتعيه أذن مستمعه ، لأن فنون الأخبار وأنواع الأشعار إذا استقصى المجتهد في إطالتها فليس يرجو النهاية إلى غايتها ومن لم يرج التمكن من الكمال في الإكثار كان حقيقا أن يقنع بالاختصار .
تعريف العقل :
العقل اسم يقع على المعرفة بسلوك الصواب والعلم باجتناب الخطأ، فإذا كان المرء في أول درجته يسمى أديبا ثم أريبا ثم لبيبا ثم عاقلا ،
كما أن الرجل إذا دخل في أول حد الدهاء قِيلَ له شيطان فإذا عتا في الطغيان قِيلَ مارد فإذا زاد على ذلك قِيلَ عبقري فإذا جمع إلى خبثه شدة شر قِيلَ عفريت، وكذلك الجاهل يقال له في أول درجته المائق ثم الرقيع ثم الأنوك ثم الأحمق 0 العقل نوعان:
مطبوع ومسموع ، فالمطبوع منهما كالأرض، والمسموع كالبذر والماء، ولا سبيل للعقل المطبوع أن يخلص له عمل محصول دون أن يرد عَلَيْهِ العقل المسموع فينبهه من رقدته ويطلقه من مكامنه يستخرج البذر والماء مَا في قعور الأرض من كثرة الربع. فالعقل الطبيعي من باطن الإنسان بموضع عروق الشجرة من الأرض والعقل المسموع من ظاهره كتدلي ثمرة الشجرة من فروعها
فالواجب على العاقل أن يكون بما أحيا عقله من الحكمة أكلف منه بما أحيا جسده من القوت لأن قوت الأجساد المطاعم وقوت العقل الحكم فكما أن الأجساد تموت عند فقد الطعام والشراب وكذلك العقول إذا فقدت قوتها من الحكمة ماتت 0
والتقلب في الأمصار والاعتبار بخلق اللَّه مما يزيد المرء عقلا وإن عدم المال في تقلبه 0
والعقل والهوى متعاديان فالواجب على المرء أن يكون لرأيه مسعفا ولهواه مسوفا فإذ اشتبه عَلَيْهِ أمران اجتنب أقربهما من هواه لأن في مجانبته الهوى إصلاح السرائر وبالعقل تصلح الضمائر .
عن الحسن يقول : مَا تم دين عَبْد قط حتى يتم عقله.
قال أَبُو حاتم : أفضل ذوي العقول منزلة أدومهم لنفسه محاسبة وأقلهم عنها فترة.
ولا يجب للعاقل أن يغتم لأن الغم لا ينفع وكثرته تزري بالعقل ولا أن يحزن لأن الحزن لا يرد المرزئة ودوامه ينقص العقل
والعاقل يحسم الداء قبل أن يبتلى به ويدفع الأمر قبل أن يقع فيه فإذا وقع فيه رَضِيَ وصبر والعاقل لا يخيف أحدا أبدا مَا استطاع ولا يقيم على خوف وهو يجد منه مذهبا وإذا خاف على نفسه الهوان طابت نفسه عما يملك من الطارف والتالد مع لزوم العفاف إذ هو قطب شعب العقل.
و مَنْ حسن عقله وقبح وجهه فقد أفقد فضائل نفسه قبائح وجهه، ومن حسن وجهه وقل عقله فقد أذهب محاسن وجهه نقائص نفسه ،
ولا يجب للعاقل أن يغتم إذا كان معدما لأن العاقل قد يرجى له الغنى ولا يوثق للجاهل المكثر ببقاء ماله،
ومال العاقل عقله وما قدم من صالح عمله،
وآفة العقل الصلف والبلاء المردي والرخاء المفرط ، لأن البلايا إذا تواترت عَلَيْهِ أهلكت عقله، والرخاء إذا تواتر عَلَيْهِ أبطره،
والعدو العاقل خير للمرء من الصديق الجاهل .
عن معاوية ابن قرة يقول: إن القوم ليحجون ويعتمرون ويجاهدون ويصلون ويصومون وما يعطون يوم القيامة إلا على قدر عقولهم.
فكما لا ينفع الاجتهاد بغير توفيق ولا الجمال بغير حلاوة ولا السرور بغير أمن كذلك لا ينفع العقل بغير ورع ولا الحفظ بغير عمل وكما أن السرور تبع للأمن والقرابة تبع للمودة كذلك المروءات كلها تبع للعقل
وعقول كل قوم على قدر زمانهم فالعاقل يختار من العمر أحسنه وإن قل فإنه خير من الحياة النكدة وإن طالت والعقل الموعى غير المنتفع به كالأرض الطيبة الخراب 0
والعاقل لا يبتدىء الكلام إلا أن يسأل ولا يكثر التماري إلا عند القبول ولا يسرع الجواب إلا عند التثبت
والعاقل لا يستحقر أحدا لأن من استحقر السلطان أفسد دنياه ومن استحقر الأتقياء أهلك دينه ومن استحقر الإخوان أفنى مروءته ومن استحقر العام أذهب صيانته 0
والعاقل لا يخفى عَلَيْهِ عيب نفسه لأن من خفي عَلَيْهِ عيب نفسه خفيت عَلَيْهِ محاسن غيره وإن من أشد العقوبة للمرء أن يخفى عَلَيْهِ عيبه لأنه ليس بمقلع عَن عيبه من لم يعرفه وليس بنائل محاسن الناس من لم يعرفها وما أنفع التجارب للمبتدى
عن الحكم ابن عَبْد اللَّه قَالَ: كانت العرب تقول العقل التجارب والحزم سوء الظن
قال أَبُو حاتم لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب
والعاقل يكون حسن المأخذ في صغره صحيح الاعتبار في صباه حسن العفة عند إدراكه رَضِيَ الشمائل في شبابه ذا الرأي والحزم في كهولته يضع نفسه دون غايته برتوة ثم يجعل لنفسه غاية يقف عندها لأن من جاوز الغاية في كل شئ صار إلى النقص .
ورأس العقل المعرفة بما يمكن كونه قبل أن يكون
والواجب على العاقل أن يجتنب أشياء ثلاثة فإنها أسرع في إفساد العقل من النار في يبيس العوسج :
الاستغراق في الضحك وكثرة التمني وسوء التثبت،
لأن العاقل لا يتكلف مالا يطيق ولا يسعى إلا لما يدرك ولا يعد إلا بما يقدر عَلَيْهِ ولا ينفق إلا بقدر مَا يستفيد ولا يطلب من الجزاء إلا بقدر مَا عنده من الغناء ولا يفرح بما نال إلا بما أجدى عَلَيْهِ نفعه منه .
قال أَبُو حاتم كفى بالعاقل فضلا وإن عدم المال بأن تصرف مساوى أعماله إلى المحاسن فتجعل البلادة منه حلما والمكر عقلا والهذر بلاغة والحدة ذكاء والعي صمتا والعقوبة تأديبا والجرأة عزما والجبن تأنيا والإسراف جودا والإمساك تقديرا فلا تكاد ترى عاقلا إلا موقرا للرؤساء ناصحا للأقران مواتيا للإخوان متحرزا من الأعداء غير حاسد للأصحاب ولا مخادع للأحباب ولا يتحرش بالأشرار ولا يبخل في الغنى ولا يشره في الفاقه ولا ينقاد للهوى ولا يجمح في الغضب ولا يمرح في الولاية ولا يتمنى مالا يجد ولا يكتنز إذا وجد ولا يدخل في دعوى ولا يشارك في مراء
ولا يدلي بحجة حتى يرى قاضيا ولا يشكو الوجع إلا عند من يرجو عنده البرء ولا يمدح أحدا إلا بما فيه لأن من مدح رجلا بما ليس فيه فقد بالغ في هجائه ومن قبل المدح بما لم يفعله فقد استهدف للسخرية .
ومن العقل التثبت في كل عمل قبل الدخول فيه
وآفة العقل العجب بل على العاقل أن يوطن نفسه على الصبر على جار السوء وعشير السوء وجليس السوء فإن ذلك مما لا يخطيه على ممر الأيام .
ولا يجب للعاقل أن يحب أن يسمى به لأن من عرف بالدهاء حذر ومن عقل العاقل دفن عقله مَا استطاع لأن البذر وإن خفي في الأرض أياما فإنه لا بد ظاهر في أوانه وكذلك العاقل لا يخفى عقله وإن أخفى ذلك جهده .
وأول تمكن المرء من مكارم الأخلاق هو لزوم العقل
مجالسة العقلاء ومجانبة الحمقى :
قَالَ شعيب بْن حرب قَالَ لي شعبة عقولنا قليلة فإذا جلسنا مع من هو أقل عقلا منا ذهب ذلك القليل وإني لأرى الرجل يجلس مع من هو أقل عقلا منه فأمقته ،
قال أَبُو حاتم أول خصال الخير للمرء في الدنيا العقل وهو من أفضل مَا وهب اللَّه لعباده فلا يجب أن يدنس نعمة اللَّه بمجالسة من هو بضدها قائم
والعاقل يقيس مَا لم ير من الدنيا بما قد رأى ويضيف مالم يسمع منها إلى مَا قد سمع وما لم يصب منها إلى مَا قد أصاب وما بقي من عمره بما فني وما لم ينل منها بما قد أوتي ولا يتكل على المال وإن كان في تمام الحال لأن المال يحل ويرتحل والعقل يقيم ولا يبرح ولو أن العقل شجرة لكانت من أحسن الشجر كما أن الصبر لو كان ثمرة لكان من أكرم الثمر .
والذي يزداد به العاقل من نماء عقله هو التقرب من أشكاله والتباعد من أضداده .
وقيل : جالسوا الألباء أصدقاء كانوا أو أعداء فإن العقول تلقح العقول.
قال أَبُو حاتم مجالسة العقلاء لا تخلو من أحد معنيين إما تذكر الحالة التي يحتاج العاقل إلى الانتباه لها أو الإفادة بالشيء الخطير الذي يحتاج الجاهل الى معرفتها
فقرب العاقل غنم لأشكاله وعبرة لأضداده على الأحوال كلها ولا يجب لمن تسمى به أن يتدلل إلا على من يحتمل دلاله ويقبل إلا على من يحب إقباله ولو كان للعقل أبوان لكان أحدهما الصبر والأخر التثبت .
......
2-صفة الأحمق والجاهل :
ترك صحبة الأحمق :
قال ابن حبان : والواجب على العاقل ترك صحبة الأحمق ومجانبة معاشرة النؤلى كما يجب عَلَيْهِ لزوم صحبة العاقل الأريب وعشرة الفطن اللبيب لأن العاقل وإن لم يصبك الحظ من عقله أصابك من الاعتبار به والأحمق إن لم يعدك حمقه تدنست بعشرته،
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ مثل الْعَطَّارِ إِنْ لَمْ يُعْطِكَ شَيْئًا يُصِبْكَ مِنْ عِطْرِهِ وَمَثَلُ الْجَلِيسِ السُّوءِ مِثْلُ الْقَيْنِ إِنْ لَمْ يَحْرِقْ ثَوْبَكَ أَصَابَكَ مِنْ دُخَانِهِ".
قلت: (رواه أبو داود، وأبو يعلى، والحاكم، والضياء)
عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
" مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً.
عَنِ الأِصْمَعِيِّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ بِلالٍ قَالَ كَانَ فتى يعجب على ابن أبي طالب فَرَآهُ يَوْمًا وَهُوَ يُمَاشِي رَجُلا متهما فقال له ... لا تصحب الجاهل ... إياك وَإِيَّاهُ
فَكَمْ مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى ... حَلِيمًا حِينَ آخَاهُ
يُقَاسُ الْمَرْءُ بِالْمَرْءِ ...إِذَا مَا هُوَ مَاشَاهُ ...
وللشيء من الشَّيْءِ ... مَقَايِيسٌ وَأَشْبَاهُ
وَلِلْقَلْبِ عَلَى الْقَلْبِ ...دَلِيلٌ حِينَ يَلْقَاهُ
وقال ابن حبان :والعاقل يجب عَلَيْهِ مجانبة الحمقى فإنهم يجترئون على من عاشرهم، ألا ترى الزط ليسوا هم بأشجع الناس ولكنهم يجترئون على الأسد لكثرة مَا يرونها.
*الزط : قوم طوال القامة ذو بشرة سوداء يقال أن أصلهم من الهند أو السند .
وقيل : احذر الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
كلما رقعته من جانب ... حركته الريح وهنا فانخرق
علامات الأحمق :
وقال ابن حبان : من علامات الحمق التي يجب للعاقل تفقدها ممن خفى عَلَيْهِ أمره،
سرعة الجواب ،وترك التثبت، والإفراط في الضحك ،وكثرة الالتفات، والوقيعة في الأخيار، والاختلاط بالأشرار,
والأحمق إذا أعرضت عنه اغتم، وإن أقبلت عَلَيْهِ اغتر ، وإن حلمت عنه جهل عليك ،وإن جهلت عَلَيْهِ حلم عنك،
وإن أسأت إليه أحسن إليك ، وإن أحسنت إليه أساء إليك،
وإذا ظلمته انتصفت منه ،ويظلمك إذا أنصفته ،
وما أشبه عشرة الحمقى إلا بما أنشدني مُحَمَّد بْن إِسْحَاق الواسطي :
لي صديق يرى حقوقي عَلَيْهِ ...نافلات، وحقه كان فرضا
لو قطعت الجبال طولا إليه ... ثم من بعد طولها سرت عرضا
لرأى مَا صنعت غير كبير ... واشتهى ...واشتهى أن أزيد في الأرض أرضا
عن سعيد ابن أَبِي أيوب قَالَ : لا تصاحب صاحب السوء فإنه قطعة من النار لا يستقيم وده ولا يفي بعهده.
قال ابن حبان :ومن شيم الأحمق: العجلة والخفة والعجز والفجور والجهل والمقت والوهن والمهابة والتعرض والتحاسد والظلم والخيانة والغفلة والسهو والغي والفحش والفخر والخيلاء والعدوان والبغضاء.
وإن من أعظم أمارات الحمق في الأحمق لسانه، فإنه يكون قلبه في طرف لسانه، مَا خطر على قلبه نطق به لسانه.
و الأحمق يتوهم أنه أعقل من ركب فيه الروح ،وأن الحمق قسم على العالم غيره، والأحمق مبغض في الناس مجهول في الدنيا غير مرضى العمل ولا محمود الأمر عند اللَّه وعند الصالحين ،كما أن العاقل محب إلى الناس مسود في الدنيا مرضى العمل عند اللَّه في الآخرة وعند الصالحين في الدنيا.
وقال :وإن من شيم العاقل الحلم والصمت والوقار والسكينة والوفاء والبذل والحكمة والعلم والورع والعدل والقوة والحزم والكياسة والتمييز والسمت والتواضع والعفو والإغضاء والتعفف والإحسان.
السكوت عن الأحمق :
عن الأعمش يقول : السكوت للأحمق جواب . قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه: وإن من الحمقى من لا يصده عَن سلوكه السكوت عنه ولا يدفعه عَن دخول المكامن الإغضاء عنه ولا ينفعه،
فالعاقل إذا امتحن بعشرة من هذا نعته تكلف بعض التجاهل في الأحايين لأن بعض الحلم، إذعان ، كما أن استعماله في بعض الحالات قطب العقل،
ولقد أنشدني مُحَمَّد بْن إِسْحَاق الواسطي :
لئن كنت محتاجا إلى الحلم إنني ...إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للحلم بالحلم ملجم ... ولي فرس للجهل بالجهل مسرج
فمن شاء تقويمي فإني مقوم ... ومن شاء تعويجي فإني معوج
وما كنت أرضى الجهل خَدَناً ولا أخاً ... ولكنني أرضى به حين أحرج
فإن قَالَ بعض الناس فيه سماجة ... فقد صدقوا والذلّ بالحر أسمج ...
..
3- الحث على لزوم العلم ومكانة العلماء :
مكانة طالب العلم :
قال ابن حبان : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ قَالا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ أَتَيْتُ صَفْوَانَ بن عسال المرادى فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟.
قُلْتُ: جِئْتُ أَنْبُطُ الْعِلْمَ.
قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ إِلا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ".
(شرح : "أنبط " من الاستنْباط وهو الاستخراج)
قال أَبُو حاتم :الواجب على العاقل إذا فرغ من إصلاح سريرته أن يُثَنّي بطلب العلم والمداومة عَلَيْهِ إذ لا وصول للمرء إلى صفاء شيء من أسباب الدنيا إلا بصفاء العلم فيه وحكم العاقل أن لا يقصر في سلوك حالة توجب له بسط الملائكة أجنحتها رضا بصنيعه ذلك .
قال ابن حبان : أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ رَافِعٍ قَالا حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ قَالَ أَتَيْتُ صَفْوَانَ بن عسال المرادى فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ؟.
قُلْتُ: جِئْتُ أَنْبُطُ الْعِلْمَ.
قَالَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَا مِنْ خَارِجٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ يَطْلُبُ الْعِلْمَ إِلا وَضَعَتْ لَهُ الْمَلائِكَةُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا بِمَا يَصْنَعُ".
(شرح : "أنبط " من الاستنْباط وهو الاستخراج)
قال أَبُو حاتم :الواجب على العاقل إذا فرغ من إصلاح سريرته أن يُثَنّي بطلب العلم والمداومة عَلَيْهِ إذ لا وصول للمرء إلى صفاء شيء من أسباب الدنيا إلا بصفاء العلم فيه وحكم العاقل أن لا يقصر في سلوك حالة توجب له بسط الملائكة أجنحتها رضا بصنيعه ذلك . الحثّ على العِلْم :
تَعَلّمْ فليس المرء يُولد عالِماً ... وليس أَخُو عِلْمٍ كمَنْ هو جاهلُ
وإن كبير القوم لَا عِلْم عنْده ... صغيرٌ إذا التفت عَلَيْهِ المحافلُ
وعن وهيب بن منبه يقول : مَنْ تعلّم عِلْماً في حَقٍ وسُنّة ، لم يذهب اللَّه بعقله أبداً .
طالب العِلْم والسلاطين :
ولا يجب أن يكون متأملاً في سعيه الدنُوْ من السلاطين أو نَوال الدنيا به فما أقبح بالعالِم التذلل لأهل الدنيا.
عن الفضيل بْن عياض يقول: مَا أقبح بالعالِم يؤتى الى منزله ، فيقال أين العالم ؟ فيقال عند الأمير ،
أين العالم ؟ فيقال عند القاضي ،
مَا للعالم وما للقاضي، وما للعالم وما للأمير، ينبغي للعالِم أن يكون في مسجده يقرأ في مصحفه .
...ما طمعت نفس عابِدٌ فنَوَى ... سؤالَ قومٍ إلا لَهُمْ خَضَعا
يا أيها الناس مَا لعالِمكم ... في بَحْرِ مَاء المُلوك قد كرَعا
يا أيها الناس أنتم زرْع ... يحصده الموت كلما طلعا
صفة طالب العِلْم :
عن الشعبي قال :ياطلاب العلم لا تطلبوا العلم بسفاهة وطيش، اطلبوه بسكينة ووقار وتؤدة.
قَالَ الشعبي : إنما كان يطلب هذا العلم من اجتمعت فيه خصلتان العقل والنُّسُك ،
فإن كان عاقلا ولم يك ناسكا قِيلَ هذا أمر لا يناله إلا النّسّاك فلم يطلبه ،وإن كان ناسِكا ولم يكن عاقلا قِيلَ هذا أمر لا يناله إلا العقلاء فلم يطلبه،
قَالَ الشعبي، فلقد رهبت أن يكون يطلبه اليوم مَنْ ليس فيه واحدة منهما، لا عقل ولا نسك.
(شرح النسك : العبادة والطاعة )
العلم لا يُقصد لذاته :
بل لنفعه ، لأن المبتغي من الأشياء كلها نفعها لا نَفْسُها، والعلم ونفس العلم شيئان، فمَنْ أغضى عَن نفعه لم ينتفع بنفسه وكان كالذي يأكل ولا يشبع ،والعلم له أول وآخر .
عن سُفْيَان : يقول أول العلم الإنصات ، ثم الاستماع ، ثم الحفظ، ثم العمل به، ثم النشر . قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ : لا تَكُونُ عَالِمًا حَتَّى تَكُونَ مُتَعَلِّمًا ، وَلا تَكُونُ بِالْعِلْمِ عَالِمًا حَتَّى تَكُونَ بِهِ عَامِلا.
العالِم اذا لم يكن عاملا :
قال أَبُو حاتم: العاقل لا يشتغل في طلب العلم إلا وقصده العمل به، لأن من سعى فيه لغير مَا وصفنا ازداد فخرا وتجبّرا، وللعمل تركاً وتضييعا،
فيكون فساده في المتأسّين به فيه أكثر من فساده في نفسه ويكون مَثَلُه كما قَالَ اللَّه تعالى:
"وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ألا ساء ما يزرون "
وعن الفضيل بْن عياض يقول: في جهنم أرحية تطحن العلماء طحنا، فقيل من هؤلاء ؟ قَالَ، قوم علموا فلم يعملوا .
(شرح : "أرحية" جمع رحا وهي حجر ثقيل يدور يطحن به )
عَن مالك بْن دينار قَالَ: إذا طلب الرجل العِلْم ليعمل به ،سَرّهُ عِلْمُه، وإذا طلب العلم لغير أن يعمل به ،زاده عِلْمُه فخرا.
العالِمُ طبيب الدين :
عَن سُفْيَان الثوري قَالَ :العالم طبيب الدين، والدرهم داء الدين ، فإذا اجتر الطبيب الداء إلى نفسه، فمتى يداوي غيره ؟
عن ابن المبارك أنه كان ببغداد فرأى إِسْمَاعِيل ابن علية راكبا بغله على باب السلطان ، فأنشأ يقول :
عَن سُفْيَان الثوري قَالَ :العالم طبيب الدين، والدرهم داء الدين ، فإذا اجتر الطبيب الداء إلى نفسه، فمتى يداوي غيره ؟
عن ابن المبارك أنه كان ببغداد فرأى إِسْمَاعِيل ابن علية راكبا بغله على باب السلطان ، فأنشأ يقول :
يا جاعل الدين لَهُ بازياً* ... يصطاد أموال السلاطين لا تَبِعْ الدين بدنيا كما ... يفعل ضُلّال الرهابين
احْتَلت للدنيا ولذّاتها ... بحيلة تذهب بالدين
وصرت مجنونا بها بعدما ... كنت دواء للمجانين
ففكر الناس جميعا بأن ... زلّ حمار العلْم في الطين
*البازي : الصقر الذي يُصَاد به . الرهابين : جمع راهب
العالِم ينشر العلم :
قال ابن حبّان : والعاقل إذا رُزِقَ من العِلْم الحظّ لا يبخل بالإفادة، لأن أول بركة العلِم الإفادة ،
وما رأيت أحدا قطّ بخِل بالعلم إلا لم ينتفع بعِلْمه، وكما لا ينتفع بالماء الساكن تحت الأرض مَا لم ينْبُع ، ولا بالذهب الأحمر مَا لم يُستخرج من معدنه ،
ولا باللؤلؤ النفيس مَا لم يخرج من بحْره ، كذلك لا ينتفع بالعلم ،مَا دام مكنونا لا يُنْشر ولا يُفَاد .
...
(4) " الصمت " من صفات العقلاء :
مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ مَاتَ قَلْبُهُ :
عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : يَا أَحْنَفُ، مَنْ كَثُرَ كَلَامُهُ كَثُرَ سَقَطُهُ ، وَمَنْ كَثُرَ سَقَطُهُ قَلَّ حَيَاؤُهُ ،
وَمَنْ قَلَّ حَيَاؤُهُ قَلَّ وَرَعُهُ ، وَمَنْ قَلَّ وَرَعُهُ مَاتَ قَلْبُهُ .
وعن الفضيل بْن عياض قال: شيئان يقسيان القلب: كثرة الكلام وكثرة الأكل.
مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليوم والآخر فيلقل خيرا أو لِيَصْمُتْ:
"حديث شريف أخرجه الشيخان البخاري ومسلم " .
قال أَبُو حاتم :الواجب على العاقل أن يبلغ مجهوده في حفظ اللسان حتى يستقيم له إذ اللسان هو المورد للمرء موارد العطب
والصمت يكسب المحبة والوقار:
والرجوع من الصمت أحسن من الرجوع عَن الكلام ،والصمت منام العقل والمنطق يقظته عَنْ أَنَسٍ أَنَّ لُقْمَانَ قَالَ إِنَّ مِنَ الْحِكَمِ الصَّمْتَ وَقَلِيلٌ فَاعِلُهُ
عن مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ يُنْتَفَعُ بِفَضْلِهِ إِلا الْكَلامَ فَإِنَّ فَضْلَهُ يَضُرُّ
قَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لا خَيْرَ فِي الْحَيَاةِ إِلا لأَحَدِ رَجُلَيْنِ: مُنْصِتٌ وَاعٍ أَوْ مُتَكَلِّمٌ عَالِمٌ.
قال أَبُو حاتم الواجب على العاقل أن لا يغالب الناس على كلامهم ولا يعترض عليهم فيه لأن الكلام وإن كان في وقته حظوة جليلة فإن الصمت في وقته مرتبة عالية ومن جهل بالصمت عي بالمنطق والإنسان إما هو صورة ممثلة أو صالة مهملة لولا اللسان والله جل وعز رفع جارحة اللسان على سائر الجوارح فليس منها شيء أعظم أجرا منه إذا أطاع ولا أعظم ذنبا منه إذا جنى.
أول العبادة: الصمت ثم طلب العلم ثم العمل به ثم حفظه ثم نشره:
قاله سُفْيَان الثوري . قَالَ الأحنف بْن قيس: الصمت أمان من تحريف اللفظ وعصمة من زيغ المنطق وسلامة من فضول القول وهيبة لصاحبه
قال أَبُو حاتم الواجب على العاقل أن يلزم الصمت إلى أن يلزمه التكلم فما أكثر من ندم إذا نطق وأقل من يندم إذا سكت،
وأطول الناس شقاء وأعظمهم بلاء من ابتلى بلسان مطلق وفؤاء مطبق:
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه الواجب على العاقل أن ينصف أذنيه من فيه ويعلم أنه إنما جعلت له أذنان وفم واحد ليسمع أكثر مما يقول لأنه إذا قَالَ ربما ندم وإن لم يقل لم يندم وهو على رد مَا لم يقل أقدر منه على رد مَا قَالَ والكلمة إذا تكلم بها ملكته وإن لم يتكلم بها ملكها والعجب ممن يتكلم بالكلمة إن هي رفعت ربما ضرته وإن لم ترفع لم تضره كيف لا يصمت ورب كلمة سلبت نعمة.
وقد ترك جماعة من أهل العلم حديث أقوام أكثروا الكلام فيما لا يليق بهم ، من ذلك ما حَدَّثَنَا أمية بْن خالد عَن سعيد قال قلت للحكم :
مالك لا تكتب عَن زاذان ؟ قَالَ : كان كثير الكلام .
لسان العاقل وراء قلبه :
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه لسان العاقل يكون وراء قلبه، فإذا أراد القول رجع إلى القلب فإن كان له قَالَ، وإلا فلا ،
والجاهل قلبه في طرف لسانه مَا أتى على لسانه تكلم به . والعاقل لا يبتديء الكلام إلا أن يسأل ولا يقول إلا لمن يقبل .
قلت وفي الحديث الصحيح : قوله صلى الله عليه وسلم (إن الرجل ليتكلم بالكلمة- ما يتبين ما فيها- يهوي بها فى النار)
قال الشارح : معناه :لايتدبرها ويفكر فى قبحها ولايخاف ما يترتب عليها ، وهذا كالكلمة عند السلطان وغيره من الولاة وكالكلمة تقذف أو معناه كالكلمة التى يترتب عليها إضرار مسلم ونحو ذلك، وهذا كله حث على حفظ اللسان كما قال صلى الله عليه وسلم :من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت ،
وينبغي لمن أراد النطق بكلمة أو كلام أن يتدبره في نفسه قبل نطقه فإن ظهرت مصلحته تكلم وإلا أمسك.
...
(5) صفة التواضع :
الحثّ على لزوم التواضع ومجانبة الكِبْر :
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا ... فكَمْ تحتها قومٌ هُمْ مِنْك أَرْفع
فإن كنت في عِزِّ وخيرٍ ومنعةٍ ... فكَمْ مات مِنْ قومٍ هُمْ منك أمْنع
المتواضع يرفعه الله :
قال أَبُو حاتم "ابن حبان" في روضة العقلاء : الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر ولو لم يكن في التواضع خصلة تحمله إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة، لكان الواجب عليه أن لا يتزين بغيره.
حيث قال رسول الله صلى الله عليه سلم : مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَلا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلا عِزًّا ، وَلا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ .
التواضع المحمود والتواضع المذموم :
التواضع نوعان :
أحدهما محمود والآخر مذموم،
الأول :التواضع المحمود : وهو ترك التطاول على عباد الله والإزراء بهم،
الثاني : التواضع المذموم : هو تواضع المرء لذي الدنيا رغبة في دنياه. فائدة وثمرة التواضع:
التواضع يرفع المرء قدرا ويعظم له خطرا ويزيده نبلا . والتواضع يكسب السلامة ، ويورث الألفة، ويرفع الحقد ويذهب الصد،
وثمرة التواضع المحبة كما أن ثمرة القناعة الراحة، وإن تواضع الشريف يزيد في شرفه، كما أن تكبر الوضيع يزيد في ضعته.
كيف يكون التواضع :
والتواضع لله جل وعز على ضربين، أحدهما: تواضع العبد لربه عندما يأتي من الطاعات غير معجب بفعله
وهو يعلم أن المولى جل وعز هو الذي يتفضل عَلَيْهِ بتلك الطاعات ،
وهذا التواضع هو السبب الدافع لنفس العجب عَن الطاعات.
والتواضع لله جل وعز على ضربين، أحدهما: تواضع العبد لربه عندما يأتي من الطاعات غير معجب بفعله
وهو يعلم أن المولى جل وعز هو الذي يتفضل عَلَيْهِ بتلك الطاعات ،
وهذا التواضع هو السبب الدافع لنفس العجب عَن الطاعات. والتواضع الآخر: هو ازدراء المرء نفسه واستحقاره إياها، عند ذكره مَا قارف من المآثم حتى لا يرى أحدا من العالم إلا ويرى نفسه دونه في الطاعات وفوقه في الجنايات.
فالعاقل إذا رأى من هو أكبر سنا منه تواضع له وقال ،سبقني إلى الإسلام ،
وإذا رأى من هو أصغر سنا تواضع له وقال، سبقته بالذنوب،
وإذا رأى من هو مِثْله عدّه أخاً، فكيف يَحْسُن تكبر المرء على أخيه ؟!!
الكِبْر ضد التواضع :
الكِبْر فيه منازعة اللَّه جل وعلا في صفات الجلال ، إذ الكبرياء والعظمة من صفات اللَّه جل وعلا، فمن نازعه إحداهما ألقاه في النار إلا أن يتفضل عَلَيْهِ بعفوه.
وكيف لا يتواضع من خُلِقَ من نطفة مذرة ،وآخره يعود جيفة قذرة ، وهو بينهما يحمل العذرة ؟
الكِبْر فيه منازعة اللَّه جل وعلا في صفات الجلال ، إذ الكبرياء والعظمة من صفات اللَّه جل وعلا، فمن نازعه إحداهما ألقاه في النار إلا أن يتفضل عَلَيْهِ بعفوه.
وكيف لا يتواضع من خُلِقَ من نطفة مذرة ،وآخره يعود جيفة قذرة ، وهو بينهما يحمل العذرة ؟ التكبر يستجلب البغضة والكراهية ، والتواضع يكسب محبة الله ومحبة الناس .
الفرق بين التواضع والمَهَانة :
قال ابن القيم في الروح :ومن التواضع المذموم: المهانة،
والفرق بين التواضع والمهانة، أن التواضع: يتولد من بين العلم بالله سبحانه ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله،
ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع وهو انكسار القلب لله ،
وخفض جناح الذل والرحمة بعباده فلا يرى له على أحد فضلا ولا يرى له عند أحد حقا بل يرى الفضل للناس عليه والحقوق لهم قبله ،
وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه.
وأما المهانة: فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السفل في نيل شهواتهم وتواضع المفعول به للفاعل وتواضع طالب كل حظ لمن يرجو نيل حظه منه فهذا كله ضعة لا تواضع والله سبحانه يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة .
التواضع : تكلف النفس وجذبها من عليائها ومنعها من التكبر.
أما الضعة : أن تهوى بالنفس من الاعتدال للسفالة والحقارة .
..
(6) التحبب الى الناس وكراهية معاداة الناس :
قال ابو حاتم : حَاجةُ المرءِ إلى الناس مع محبتهم إياه ، خَيْرٌ مِنْ غَناهُ عنهم مع بُغْضِهم إياه .
استحباب التحبب إلى الناس من غير مقارفة المأثم :
قال أَبُو حاتم: الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق وترك سوء الخلق،
لأن الخلق الحسن يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد ،
وإن الخلق السيء ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل ،
وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها وخلق سيء فيفسد الخلق السيء الأخلاق الصالحة كلها .
عن ابْنَ عَبَّاسٍ : يَقُولُ إِنَّ الرَّحِمَ تُقْطَعُ وَإِنَّ النِّعَمَ تُكْفَرُ وَلَمْ أَرَ مِثْلَ تَقَارُبِ الْقُلُوبِ
الفضيل بْن عياض يقول إذا خالطت فخالط حسن الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى خير وصاحبه منه في راحة،
ولا تخالط سيء الخلق فإنه لا يدعو إلا إلى شر وصاحبه منه في عناء،
ولأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قاريء سيء الخلق ،
إن الفاسق إذا كان حسن الخلق عاش بعقله وخف على الناس وأحبوه ،
وإن العابد إذا كان سيء الخلق ثقل على الناس ومقتوه .
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه حسن الخلق بذر اكتساب المحبة كما أن سوء الخلق بذر استجلاب البغضة ومن حسن خلقه صان عرضه ومن ساء خلقه هتك عرضه لأن سوء الخلق يورث الضغائن والضغائن إذا تمكنت في القلوب أورثت العداوة والعداوة إذا ظهرت من غير صاحب الدين أهوت صاحبها إلى النار إلا أن يتداركه المولى بتفضل منه وعفو
عَن الزهري قَالَ وهل ينتفع من السيء الخلق بشيء
وأنشدني عَبْد العزيز بن سليمان الأبراش :
للخير أهل لا تزال ...وجوههم تدعو إليه
طوبى لمن جرت الأمور ... الصالحات على يديه
مالم يضق خلق الفتى ... فالأرض واسعة عَلَيْهِ
التودد الى الناس نصف العقل :
عَن ميمون بْن مهران قَالَ: التودد إلى الناس نصف العقل ، وحسن المسألة نصف العلم،
واقتصادك في معيشتك يلقي عنك نصف المؤونه.
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه :التحبب إلى الناس أسهل مَا يكون وجهاً، وأظهر مَا يكون بِشْراً ، وأخصر مَا يكون أمرا، وأرفق مَا يكون بهيا ،
وأحسن مَا يكون خُلقاً ، وألين مَا يكون كنفاً ، وأوسع مَا يكون يدا ، وأدفع مَا يكون أذى ، وأعظم مَا يكون احتمالا ،
فإذا كان المرء بهذا النعت، لا يحزن من يحبه، ولا يفرح من يحسده ،
لأن من جعل رضاه تبعا لرضا الناس وعاشرهم من حيث هم، استحق الكمال بالسؤدد .
احذر أن تكون من الثقلاء :
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه حاجة المرء إلى الناس مع محبتهم إياه ،خير من غناه عنهم مع بغضهم إياه،
والسبب الداعي إلى صد محبتهم له هو التضايق في الأخلاق وسوء الخلق،
لأن من ضاق خلقه سئمه أهله وجيرانه، واستثقله إخوانه ، فحينئذ تمنوا الخلاص منه ودعوا بالهلاك عَلَيْهِ .
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه الاستثقال من الناس يكون سببه شيئين :
أحدهما ، مقارفة المرء مَا نهى اللَّه عنه من المآثم ـ
لأن من تعدى حرمات اللَّه أبغضه اللَّه ومن أبغضه اللَّه أبغضته الملائكة ثم يوضع له البغض في الأرض فلا يكاد يراه أحد إلا استثقله وأبغضه.
والسبب الآخر : هو استعمال المرء من الخصال مَا يكره الناس منه فإذا كان كذلك استحق الاستثقال منهم
سمعت مُحَمَّد بْن السري البغدادي يقول سمعت أبا بكر المروروذي يقول سألت أحمد بْن حنبل عَن الثقلاء فقال سألت عنهم بشرا الحافي فقال:
النظر إليهم سخنة العين
قلت لأحمد من الثقلاء ؟
قَالَ أهل البدع
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه هذا الذي قَالَ أَحْمَد بْن حنبل رحمة اللَّه عليه هو استثقال الخاص إذا عرف أحدهم من بعض الناس ثلما في السنة أبغضه على بدعته ،
فأما العام فلا يكادون يعادون ويوالون إلا على المحبوب من الخصال والمكروه من الفعال
ألا ترى المقنع الكندي حيث يقول لبعض من صحبه :
ألا يا مركب المقت الذي أرسى فلا يبرح
ويا من سكرات الموت ... من طلعته أروح
لقد صورت في فكري ... فلا أدري لما تصلح
فلا تصلح أن تهجى ... ولا تصلح أن تمدح
بلى تصلح أن تقتل أو تصلب أو تذبح ...
وعَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بُكَيْرٍ قَالَ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا اسْتَثْقَلَ جَلِيسًا لَهُ قَالَ :
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُ وَأَرِحْنَا مَنْهُ فِي عَافِيَةٍ.
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : الواجب على العاقل مجانبة الخصال التي تورثه استثقال الناس إياه، وملازمة الخصال التي تؤديه إلى محبتهم إياه .
أعظم الوسائل كي يحبك الناس ؟ :
ومن أعظم مَا يتوسل به إلى الناس ويستجلب به محبتهم البذل لهم مما يملك المرء من حطام هذه الدنيا،
واحتماله عنهم مَا يكون منهم من الأذى . فلو أن المرء صحبه طائفتان إحداهما تحبه والأخرى تبغضه ، فأحسنَ الى التي تبغضه ، ثم أَساءَ إلى التي تحبه ،
ثم أصابته نكبة فاحتاج إليهما، لكان أسرعهما الى خذلانه وأبعدها عَن نصرته الطائفة التي كانت تحبه ،
وأسرعهما إلى نصرته وأبعدهما عَن خذلانه الطائفة التي كانت تبغضه لأن الكلب إذا شبع قوي وإذا قوي أمل وإذا أمل تبع المأمول،
وإذا جاع ضعف ،وإذا ضعف أيس، وإذا أيس ولى عَن المتبوع .
قال ابن حبان : فمن عدم المال ،فليبسط وجهه للناس، فإن ذلك يقوم مقام بذل المعروف إذ هو أحد طرفيه .
قَالَ سئل ابن المبارك عَن حسن الخلق فقال :هو بسط الوجه وبذل المعروف .
- عَن مجاهد قَالَ إذا لقي المسلم أخاه فصافحه وكشر في وجهه تحاتت ذنوبه كما تحات العذق من النخلة
فقال رجل لمجاهد :يا أبا الحجاج إن هذا من العمل اليسير.
فقال مجاهد : {هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أفيسير هذا ؟
..
7. اعتزال الناس :
ذكر استحباب الاعتزال من الناس عاما:
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : الواجب على العاقل لزوم الاعتزال عَن الناس عاما مع توقي مخالطتهم ،
إذ الاعتزال من الناس لو لم يكن فيه خصلة تحمد إلا السلامة من مقارفة المأثم لكان حقيقا بالمرء أن لا يكدر وجود السلامة بلزوم السبب المؤدي إلى المناقشة
وروي عَنْ عمر بن الخطاب قَالَ : خُذُوا بِحَظِّكُمْ مِنَ الْعُزْلَةِ .
وعن حامد بْن يَحْيَى البلخي قَالَ سمعت سُفْيَان بْن عيينة يقول: رأيت الثوري في المنام ،فقلت له: أوصني .
فقال: أقل معرفة الناس، أقل معرفة الناس .
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه: العاقل لا يستعبد نفسه لأمثاله بالقيام في رعاية حقوقهم والتصبر على ورود الأذى منهم مَا وجد إلى ترك الدخول فيه سبيلا لأنه إذا حسم عن نفسه ترك الاختلاط بالعالم والمخالطة بهم تمكن من صفاء القلب وعدم تكدر الأوقات في الطاعات،
ولقد استعمل العزلة جماعة من المتقدمين مع العام والخاص معا.
وعن بكر مُحَمَّد العابد يقول قَالَ لي داود الطائي : يا بكر استوحش من الناس كما تستوحش من السبع.
وعن عَبْد العزيز بْن الخطاب قال :رؤى إلى جنب مالك بْن دينار كلب عظيم ضخم أسود رابض، فقيل له يا أبا يَحْيَى ألا ترى هذا الكلب إلى جنبك.
قَالَ :هذا خير من جليس السوء.
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه :هذا الذي ذهب إليه داود الطائي وضرباؤه من القراء من لزوم الاعتزال من الخاص كما يلزمهم ذلك من العام أرادوا بذلك عند رياضة الأنفس على التصبر على الوحدة وإيثار ضد الخلطة على المعاشرة ،
فإن المرء متى لم يأخذ نفسه بترك مَا أبيح له فأنا خائف عَلَيْهِ الوقوع فما حظر عَلَيْهِ.
وأما السبب الذي يوجب الاعتزال عَن العالم كافة فهو مَا عرفتهم به من وجود دفن الخير ونشر الشر يدفنون الحسنة ويظهرون السيئة فإن كان المرء عالما بدّعُوه وإن كان جاهلا عيّروه وإن كان فوقهم حسدوه وإن كان دونهم حقروه وإن نطق قالوا مهذار وإن سكت قالوا عيي وإن قدر قالوا مقتر وإن سمح قالوا مبذر فالنادم في العواقب المحطوط عَن المراتب من اغتر بقوم هذا نعتهم وغره ناس هذه صفتهم.
وقال أحدهم : صحبت الناس خمسين سنة فلم أجد أحداً ستر لي عورة ولا وصلني إذا قطعته ولا أمنته إذا غضب فالاشتغال بهؤلاء حمق كثير.
وعن أبي ذر قال : كَانَ النَّاسُ وَرَقًا لا شَوْكَ فِيهِ ، فَهُمُ الْيَوْمَ شَوْكٌ لا وَرَقَ فِيهِ .
وعن القحذمي ينشد :
... ذهب الحسن والجمال من الناس ... ومات الذين كانوا ملاحا
وبقى الأسمجون من كل صنف ... إن في الموت من أولئك راحا
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : العاقل يعلم أن البشر مجبولون على أخلاق متباينة وشيم مختلفة ،فكل واحد يحب اتباع مساعدته وترك مباعدته،
فمتى رام من أخيه ضد مَا وطن نفسه عَلَيْهِ قلاه ، وإذا تبين له منه خلاف مَا أضمر عَلَيْهِ قلبه مله ، ومن الملال يكون الاستثقال ومن الاستثقال يكون البغض ومن البغض تهيج العداوة فالآشتغال هذا بمن نعته للعاقل حمق.
عَن سَعِيد بْن عَبْد العزيز قَالَ قَالَ مكحول : إن كان في مخالطة الناس خير فالعزلة أسلم.
عن مُحَمَّد بْن روح قَالَ سمعت إِبْرَاهِيم البخاري يقول : دخلت المسجد الحرام بعد المغرب فإذا فضيل جالس فجئت فجلست إليه .
فقال من هذا ؟
فقلت: إِبْرَاهِيم.
قَالَ: مَا جاء بك ؟
قلت :رأيتك وحدك فجلست إليك.
قَالَ :تحب أن تغتاب أو تتزين أو ترائي .
قلت لا .
قَالَ : قم عني.
فضل المعتزل بعد المجاهد في سبيل الله :
أخرج البخاري في صحيحه :
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: حدثني عطاء بن يزيد الليثي، أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه، حدثه قال:
قيل: يا رسول الله أي الناس أفضل؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مؤمن يجاهد في سبيل الله بنفسه وماله»،
قالوا: ثم من؟
قال: " مؤمن في شعب من الشعاب يتقي الله، ويدع الناس من شره " .
أخرجه مسلم قال :
حدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا يحيى بن حمزة، عن محمد بن الوليد الزبيدي، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد الخدري، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أي الناس أفضل؟
فقال: «رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه»،
قال: ثم من؟
قال: «مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه، ويدع الناس من شره
وقال مسلم :
حدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن أبي سعيد، قال:
قال رجل: أي الناس أفضل؟ يا رسول الله،
قال: «مؤمن يجاهد بنفسه وماله في سبيل الله»،
قال: ثم من ؟
قال: ثُمَّ رَجُلٌ مُعْتَزِلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ يَعْبُدُ رَبَّهُ وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ .
قال الحافظ ابن حجر في شرحه "فتح الباري ":
وإنما كان المؤمن المعتزل يتلوه في الفضيلة لأن الذي يخالط الناس لا يسلم من ارتكاب الآثام فقد لا يفي هذا بهذا وهو مقيد بوقوع الفتن.
قوله ( مؤمن في شعب) في رواية مسلم من طريق معمر عن الزهري رجل معتزل.
قوله ( يتقي الله) في رواية مسلم من طريق الزبيدي عن الزهري " يعبد الله".
وفي حديث ابن عباس : معتزل في شعب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعتزل شرور الناس".
وفي الحديث فضل الانفراد لما فيه من السلامة من الغيبة واللغو ونحو ذلك ،
وأما اعتزال الناس أصلا فقال الجمهور محل ذلك عند وقوع الفتن كما سيأتي بسطه في كتاب الفتن ويؤيد ذلك رواية بعجة بن عبد الله عن أبي هريرة مرفوعا يأتي على الناس زمان يكون خير الناس فيه منزلة من أخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطلب الموت في مظانه ورجل في شعب من هذه الشعاب يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويدع الناس الا من خير أخرجه مسلم وابن حبان من طريق أسامة بن زيد الليثي عن بعجة .
قال بن عبد البر إنما أوردت هذه الأحاديث بذكر الشعب والجبل لأن ذلك في الأغلب يكون خاليا من الناس فكل موضع يبعد على الناس فهو داخل في هذا المعنى .
وقال الامام النووي في شرح صحيح مسلم :
فيه دليل لمن قال بتفضيل العزلة على الاختلاط وفي ذلك خلاف مشهور :
فمذهب الشافعي وأكثر العلماء أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن ، ومذهب طوائف أن الاعتزال أفضل،
وأجاب الجمهور عن هذا الحديث بأنه محمول على الاعتزال في زمن الفتن والحروب أو هو فيمن لا يسلم الناس منه ولا يصبر عليهم أو نحو ذلك من الخصوص ،
وقد كانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وجماهير الصحابة والتابعين والعلماء والزهاد مختلطين فيحصلون منافع الاختلاط كشهود الجمعة والجماعة والجنائز وعيادة المرضى وحلق الذكر وغير ذلك .
وأما الشعب :فهو ما انفرج بين جبلين. وليس المراد نفس الشعب خصوصا بل المراد الانفراد والاعتزال وذكر الشعب مثالا لأنه خال عن الناس غالبا،
وهذا الحديث نحو الحديث الآخر حين سئل صلى الله عليه وسلم عن النجاة. فقال : أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك.
..
8- زجر التحاسد :
علاقة التحاسد والاخوة :
أقول : الاخوة الحقيقية هي عدم التحاسد ، فترى الشقيقان أو الصديقان أو الصاحبان أو الزميلان يخالط أحدهما آخر في المأكل والمشرب والملاهي والأعياد ومجالس الذكر والفكر،
بينما أحدهما يضمر للآخر شيئا من الحسد .
والحسد لا يختص بكثرة مال أو منصب وجاه أو حسن وجمال أو تفوق في مسألة ، بل هو يعمّ الأمور كلها، كبيرها وصغيرها ، حتى في رداء أو مسبحة .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا تَبَاغَضُوا وَلا تَحَاسَدُوا وَلا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا.
الفرق بين الحسد والتحاسد :
وأقول : الحسد يكون من طرف لآخر ، وأما التحاسد فهو من التفاعل فيكون متبادلا بين الطرفين الإثنين . وأكثر ما يقال في الخطب وعلى المنابر وفي الكتب والمقالات يكون في الحسد ، وقليل من ينبه على أمر التحاسد الذي انتشر بين الناس كانتشار النار في الهشيم .
والحسد أعمّ من تعريفه الذي ذكره الفقهاء وهو تمني زوال النعمة ،
فأصل الحسد هو التطلع الى حظوظ الغير فيحمل الناس على التنافس والغيرة ثم يتنامى ويزيد شدة الى مرتبة تمني زوال حظ الغير .
وليس بالضرورة ان يكون الحسد مثل حسد بني يعقوب لأخيهم يوسف فيحملهم على المكيدة ، أو أعمال الشعوذة والسحر وهلاك المحسود ،
بل هو يكون موجودا ومخالطا بين المحبين وفي أشكال مختلفة ،لكنك تجده وتعرفه بآمارات لطيفة تكاد ان تكون مخفية ،
فتجد مثلا صديقاً دائم اللوم والعتاب لك فلا تكاد تقابله إلا واجهك بالملام والعتاب ،
" انت ما بتسألش عليّ" و " انت ما عزمتنيش مع فلان " و" انت ما قلتيش على كذا " و" انت مافكرتنيش بكذا " ،
والسّر في كثرة هذا الملام هو أنه في باطنه يحسدك في بعض الأمور ، وزي ما بنقول في العامية " تلكيكة ".
معنى الحديث : لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل، وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالا، فهو ينفقه آناء الليل، وآناء النهار.
أقول : دأب شراح الحديث بأن الحسد هنا مجازي وأن معناه الغبطة ،
ورأيي الخاص : أن الحديث على ظاهره فمعناه انتفاء الحسد حيث انعدم الشيء المسبب للحسد ، فالمال الذي بسببه حسده الحاسدون قد ذهب ولا وجود له ، فلا مجال حينئذ للحسد ،
فأنت مثلا تحسد صاحب المال على قصره أو سيارته أو حصانه ، فاذا انعدم القصر واكتفى ببيت متواضع ،
وسيارته قد راحت للغير ، وأوقف الحصان في سبيل الله ، فأين اذن المال الذي يدفع لحسد الغير ؟
التنافس والمنافسة :
وأقول : يغلط بعض الفقهاء والفضلاء في استحسان المنافسة ، وهم لا يدرون أنها شقيقة الحسد وملازمة له أو هي أثر من آثاره ، ويظنون أنها من قوله تعالى:
"
وأقول : يغلط بعض الفقهاء والفضلاء في استحسان المنافسة ، وهم لا يدرون أنها شقيقة الحسد وملازمة له أو هي أثر من آثاره ، ويظنون أنها من قوله تعالى:
" وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ " المطففين ، فالآية تحث على التنافس على شيئ غير مرئي للناس ولا وجود له في الدنيا ،
بعكس الذين يتنافسون على مباهج وزينة الحياة الدنيا ، وفي الحديث النبوي رواه مسلم في صحيحه :
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا فتحت عليكم فارس والروم، أي قوم أنتم؟ " قال عبد الرحمن بن عوف: نقول كما أمرنا الله،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو غير ذلك،
" تتنافسون، ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون، ثم تتباغضون"، أو نحو ذلك.
وفي رواية " فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم، كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم " .
قول أَبُو حاتم البستي في الحسد :
الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها ،
فإن أهون خصال الحسد ،هو ترك الرضا بالقضاء وإرادة ضد مَا حكم اللَّه جل وعلا لعباده،
ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عَن المسلم ،
والحاسد لا تهدأ روحه ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عَن أخيه ، وهيهات أن يساعد القضاء مَا للحساد في الأحشاء
وأنشدني مُحَمَّد بْن إِسْحَاق بْن حبيب الواسطي :
أعذر حسودك فيما قد خصصت به ... إن العلي حسن في مثله الحسد
إن يحسدوني فإني لا ألومهم ... قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي ولهم مَا بي وما بهم ... ومات أكثرنا غيظا بما يجد
أنا الذي وجدوني في صدورهم ... لا أرتقي صدرا منهم ولا أرد
وأنشدني ابن بلال الأنصاري :
عين الحسود عليك الدهر حارسة ...تبدى مساويك والإحسان يخفها
فاحذر حراستها واحذر تكشفها ... وكن على قدر مَا توليك توليها ..
أقوال السلف في الحسد :
وعن عمر بن الخطاب : مَا مِنْ أحد عنده نِعْمَةٌ إِلا وَجَدْتَ لَهُ حَاسِدًا ، وَلَوْ كَانَ الْمَرْءُ أَقْوَمَ مِنَ الْقَدَحِ، لَوَجَدْتَ لَهُ غَامِزًا.
قَالَ ابن سيرين : مَا حسدت أحدا على شيء من الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى الجنة ،
وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على شيء من الدنيا وهو يصير إلى النار .
وعنه : مَا حسدت أحدا على دين ولا دنيا.
الحسد من أخلاق اللئام وتركه من أفعال الكرام ولكل حريق مطفيء ونار الحسد لا تطفأ.
والحسد هو اسم يقع على إرادة زوال النعم عَن غيره وحلولها فيه فأما من رأى الخير في أخيه وتمنى التوفيق لمثله أو الظفر بحاله وهو غير مريد لزوال مَا فيه أخوه فليس هذا بالحسد الذي ذم ونهي عنه
ولا يكاد يوجد الحسد إلا لمن عظمت نعمة اللَّه عَلَيْهِ فكلما أتحفه الله بترداد النعم ازداد الحاسدون له بالمكروه والنقم
إماتة الحسد :
قال ابو حاتم : فالعاقل يكون على إماتة الحسد بما قدر عَلَيْهِ أحرص منه على تربيته ولا يجد لإماتته دواء أنفع من البعاد فإن الحاسد ليس يحسدك على عيب فيك ولا على خيانة ظهرت منك ولكن يحسدك بما ركب فيه من ضد الرضا بالقضاء . حسد الأقران :
يقول أبو حاتم : وأكثر مَا يوجد الحسد بين الأقران أو من تقارب الشكل لأن الكتبة لا يحسدها إلا الكتبة كما أن الحجبة لا يحسدها إلا الحجبة ولن يبلغ المرء مرتبة من مراتب هذه الدنيا إلا وجد فيها من يبغضه عليها أو يحسده فيها والحاسد خصم معاند لا يجب للعاقل أن يجعله حكما عند نائبة تحدث فإنه إن حكم لم يحكم إلا عَلَيْهِ وإن قصد لم يقصد إلا له وإن حرم لم يحرم إلا حظه وإن أعطى أعطى غيره وإن قعد لم يقعد إلا عنه وإن نهض لم ينهض إلا إليه وليس للمحسود عنده ذنب إلا النعم التي عنده ،
فليحذر المرء مَا وصفت من أشكاله وأقرانه وجيرانه وبنى أعمامه .
وما رأيت حاسدا سالم أحدا .
من علامات الحاسد والحسد :
والحاسد إذا رأى بأخيه نعمة بهت ، وإن رأى به عثرة شمت ، ودليل مَا في قلبه كمين على وجهه مبين ،
والحسد داعية إلى النكد ، ألا ترى إبليس حسد آدم فكان حسده نكدا على نفسه فصار لعينا بعدما كان مكينا .
عن ابن عائشة قَالَ قَالَ بعض الحكماء : ألزم الناس للكآبة أربعة : رجل حديد، ورجل حسود ، وخليط للأدباء وهو غير أديب ، وحكيم محتقر للأقوام.
قيل : من الحسد يتولد الحقد ، والحقد أصل الشر ، ومن أضمر الشر في قلبه أنبت له نباتا مُرّاً مذاقه ، نماؤه الغيظ وثمرته الندم .
الإيثار يقتل الحسد :
في الختام أقول : الأثرة والحسد متناقضان وبينهما علاقة عكسية، و فضيلة الإيثار تكاد تنقرض في هذا الزمان بسبب انتشار التحاسد ،
وأن تؤثر أخيك أو صاحبك أو جارك بالأحسن فهو من قبيل الأساطير ،
ولكي تقتل الحسد في نفسك ونفس أخيك فعليك بالايثار ، فالحسد بسبب الأفضل ، فاذا أنت آثرت غيرك بالأفضل فلا مجال حينئذ للحسد .
..
9- ذكر الحث على سياسة الرياسة ورعاية الرعية:
الرعاة :
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه صرحت السنة عَن المصطفى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم بأن كل راع مسئول عَن رعيته ،
فالواجب على كل من كان راعيا لزوم التعاهد لرعيته ،
فرعاة الناس ،العلماء ، وراعي الملوك، العقل ، وراعي الصالحين، تقواهم ،
وراعي المتعلم، معلمه ، وراعي الولد، والده ،كما أن حارس المرأة ،زوجها ، وحارس العبد، مولاه ، وكل راع من الناس مسئول عَن رعيته . وأكثر مَا يجب تعاهد الرعية الملوك إذ هم رعاة لها وهم أرفع الرعاة لكثرة نفاذ أمورهم وعقد الأشياء وحلها من ناحيتهم ،
فإذا لم يراعوا أوقاتهم ولم يحتاطوا لرعيتهم هلكوا وأهلكوا، وربما كان هلاك عالم في فساد ملك واحد، ولا يدوم ملك ملك إلا بأعوان تطيعه ،
ولا يطيعه الأعوان إلا بوزير، ولا يتم ذلك إلا أن يكون الوزير ودودا نصوحا ، ولا يوجد ذلك من الوزير إلا بالعفاف.
والرأي لا يتم قوام هؤلاء إلا بالمال ، ولا يوجد المال إلا بصلاح الرعية ، ولا تصلح الرعية إلا بإقامة العدل،
فكأن ثبات الملك لا يكون إلا بلزوم العدل ، وزواله لا يكون إلا بمفارقته .
فالواجب على الملك أن يتفقد أمور عماله حتى لا يخفى عَلَيْهِ إحسان محسن ولا إساءة مسيء، لأنه إذا جنى عَلَيْهِ أعمال عماله لم يكن قائما بالعدل
ولقد أنشدني علي بْن مُحَمَّد البسامي :
إذا أسست قوما فاجعل العدل بينهم ...وبينك تأمن كل مَا تتخوف
وإن خفت من أهواء قوم تشتتا ...فبالجود فاجمع بينهم يتألفوا
ستة أشياء لازمة للوزير :
عن الأصمعي قَالَ : قال ملك طخارستان لنصر بْن سيار، ينبغي للأمير أن يكون له ستة أشياء :وزير يثق به ويفضي إليه بسره ، وحصان يلجأ إليه إذا فزع أنجاه يعني فرسا ، وسيف إذا نازل به الأقران لم يخف أن يخونه، وذخيرة خفيفة المحمل إذا نابته نائبة أخذها ، وامرأة إذا دخل إليها أذهبت همه ،
وطباخ إذا لم يشته الطعام صنع له شيئا يشتهيه.
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : لا يجب للسلطان أن يفرط البشاشة والهشاشة للناس ،ولا أن يقل منهما ، فإن الإكثار منهما يؤدي إلى الخفة والسخف، والإقلال منهما يؤدي إلى العجب والكبر، ولا ينبغي له أن يغضب لأن قدرته من وراء حاجته ،ولا أن يكذب لأنه لا يقدر أحد على استكراهه ،
ولا له أن يبخل لأنه لا عذر له في منع الأموال والجاه معا ، ولا له أن يحقد لأنه يجب أن يترفع عَن المجازاة ،
فأفضل السلطان مالم يخالطه البطر ،وأعجزهم آخذهم بالهوينا، وأقلهم نظرا في العواقب ،وخير السلطان من أشبه النسر حوله الجيف ،لا من أشبه الجيف حولها النسور. ويجب عَلَيْهِ استبقاء الرياسة وما فيه من نعمه اللَّه عَلَيْهِ بلزوم تقوى اللَّه وتفقد أمور الرعية وإنصاف بعضهم بعضا، لأنه مَا من قوي في الدنيا إلا وفوقه أقوى منه ، فمتى مَا عرف السلطان فضل قوته على الضعفاء فغره ذلك من قوة الأقوياء كانت قوته حينا عَلَيْهِ وهلاكا له،
والضعيف المحترس أقرب إلى السلامة من القوي المغتر، لأن صرعة الاسترسال لا تكاد تستقال ،ولا يجب أن يعجل في سلطانه بعقاب من يخاف أن يندم عَلَيْهِ ولا يثقن بمن عاقبه من غير جرم.
وما أشبه السلطان إلا بالنار إن قصرت بطل نفعها ،وإن جاوزت عظم ضَرّها ،فخير السلطان من أشبه الغيث في أحيائه في نفع من يليه ،لا من أشبه النار في أكلها مَا يليها.
والسلطان إذا كان عادلا خير من المطر إذا كان وابلا ، وسلطان غشوم خير من فتنة تدوم ، والناس إلى عدل سلطانهم أحوج منهم إلى خصب زمانهم .
قَالَ الأحنف بْن قيس : الولي من الرعية مكان الروح من الجسد الذي لا حياة له إلا به، وموضع الرأس من أركان الجسد الذي لا بقاء له إلا معه.
وأنشدني ابن زنجي البغدادي للأفوه الأودي :
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جُهّالهم سَادُوا
والبيت لا يبتنى إلا بأعمدة ...ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد وأعمدة ... وساكن أدركوا الأمر الذي كادوا
تهدى الأمور بأهل الرأي مَا صلحت ...فإن تولت فبالأشرار تنقاد ...
واجبات السلطان :
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : الواجب على السلطان قبل كل شيء :
أن يبدأ بتقوى اللَّه وإصلاح سريرته بينه وبين خالقه ،ثم يتفكر فيما قلده اللَّه من أمر إخوانه ورفعه عليهم ليعلم أنه مسئول عنهم في دق الأمور وجلها،
ومحاسب على قليلها وكثيرها ، ثم يتخذ وزيرا صالحا عاقلا عفيفا نصوحا ، وعمالا صالحين بررة راشدين، وأعوانا مستورين ،وخدما معلومين،
ثم يقلد عماله مالا غنى له عنهم، ويشترط عليهم تقوى اللَّه وطاعته وأخذ المال من حله ويفرقه في أهله،
ثم يتفقد أمر بيت المال بأن لا يدخله حبة فما فوقها من قهر أو جور أو سلب أو نهب أو رشوة ، فإنه مسئول عَن كل ذرة منه ومحاسب على كل حبة فيه،
ثم لا يخرجه إلا في المواضع التي أمر اللَّه جل وعلا في سورة الأنفال ( )
ثم يتفقد أمور الحرمين وطريق الحاج ومجاوري بيت الله وقبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم،
ثم يتفقد ثغور المسلمين ولا يولى على الثغور من عماله إلا من يعلم أن القتل في سبيل اللَّه يكون آثر عنده من البقاء في الدنيا ليغزي الناس ولا يعطل الثغر
ثم يتفقد ثغور المسلمين ومراقبهم والأبرجة التي بين المسلمين وبين عدوهم بأن يعمرها ويقيم فيها أعينا من المسلمين تتجسس أخبار العدو ويجري عليهم من بيت مالهم ،
ثم يتفقد أولاد المهاجرين والأنصار بعطاياهم ويعرف فضيلتهم وسابقة آبائهم وأنه إنما نال مَا نال بهم ،
ثم يتفقد أمور الحكام بأن لا يولى أحدا على قضاء المسلمين إلا من يعلم منه العفاف والعلم وترك الميل إلى الهوى والحكم بغير مَا يوجبه العلم
ثم يتفقد أهل العلم والقرّاء والمؤذنين والصالحين وضعفاء المسلمين ،وليكن لمن هو أصغر سنا منه أَباً ولمن هو أكبر منه ابنا ولأترابه أخا فيكون في تفقد أمورهم ولصلاح أسبابهم أكثر من تفقدهم بأنفسهم
ثم يختار من الرعية أقواما أمناء يبعث بهم في كل سنة إلى المدن ليشرفوا على العمال والحكام، ويتفقدوا أسبابهم وسيرهم ويخبروه بها فيعزل من استحق منهم العزل ويقر من اتبع الحق،
ثم يجعل لنفسه موضعا لا يمنع منه لطرح القصص ويبرز للرعية في كل يوم مرة أو في كل ثلاثة أيام أو في كل أسبوع ليرفعوا إليه حوائجهم وليجتنب الحدة وليلزم الحلم الدائم فيما يرد عليه من أسبابهم.
ولقد حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن قحطبة حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن زنبور حدثنا أبو بكر ابن عياش:
أن أهل الجاهلية لم يكونوا يسودون عليهم أحدا لشجاعة ولا لسخاء ، إنما كانوا يسودون من إذا شُتِم حَلِم ،وإذا سُئِل حاجة قضاها أو قام معهم فيها.
من المستحق للرياسة :
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه لا يستحق أحد اسم الرياسة حتى يكون فيه ثلاثة أشياء : العقل والعلم والمنطق، ثم يتعرى عَن ستة أشياء: عَن الحدة والعجلة والحسد والهوى والكذب وترك المشاورة.
ثم ليلزم في سياسته على دائم الأوقات ثلاثة أشياء: الرفق في الأمور، والصبر على الأشياء، وطول الصمت.
فمن تعرى عَن هذه الأشياء وهو ذو سلطان عمي عَلَيْهِ قلبه وتشتتت عَلَيْهِ أموره ،ومن لم يكن فيه خصلة من هذه الخصال نقص من ضوء بصر قلبه مثلها الخلل في أموره نحوها.
وإنما مثل الرئيس والرعية كمثل جماعة ليس فيهم إلا قائد واحد فإن لم يكن ذلك القائد أحد الناس بصرا وألطفهم نظرا كان خليقا أن يوقعهم وإياه في وهدة تندق أعناقهم وعنقه معهم.
والواجب على السلطان أن لا يغفل عَن الأشياء الأربعة التي صلاحه في دينه ودنياه فيها ، وهي مَا حَدَّثَنَا به عمرو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْغَلابِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْجُشَمِيُّ حَدَّثَنَا المدائني: قَالَ خرج الزهري يوما من عند هشام بْن عَبْد الملك فقال: مَا رأيت كاليوم ولا سمعت به كأربع كلمات تكلم بهن رجل آنفا عند هشام بْن عَبْد الملك فقيل له وما هن ؟ قَالَ قَالَ له رجل :
يا أمير المؤمنين احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك واستقامة رعيتك.
قَالَ :هاتهن .
قَالَ : لا تعدن عدة لا تثق من نفسك بإنجازها ، ولا يغرنك المرتقى وإن كان سهلا إذا كان المنحدر وعرا ،واعلم أن للأعمال جزاءا فاتق العواقب ،
وأن للأمور بغتات فكن على حذر.
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه: لا يجب للعاقل طلب الإمارة لأن من أوتيها عَن مسألة وكل إليها، ومن أعطيها من غير مسألة أعين عليها،
ومن اشتهر بالرياسة فليحترز لأن الريح الشديدة لا تحطم الكلأ وهي تحطم دوح الشجر ومشيد البنيان.
وليلزم المشورة فإن في المشورة صلاح الرعية ومادة الرأي ،وليصنع إلى الناس كافة في الوقت الذي يقدر على الصنائع والمعروف قبل أن يجيئه الوقت الذي يفقد فيه القدرة عليها ،وليعتبر بمن كان قبله من الملوك والأمراء والسادة والوزراء لأن من ظفر بأمر جسيم فأضاعه فاته ومن أمكنته الفرصة فأخر العمل فيها لا تكاد تعود إليه .
والسلطنة إنما هي قول الحق والعمل بالعدل ، لا التفاخر في الدنيا واستعمال البذل.
قَالَ أَبُو عمرة بْن العلاء :كانوا لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال وتمامهن في الإسلام السابعة، السخاء والنجدة والصبر والحلم والبيان والتواضع وتمامهن في الإسلام الحياء.
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه من صحب السلطان فلا يجب أن يكتمه نصيحته لأن من كتم السلطان نصيحته ،والأطباء مرضه والإخوان بشه فقد خان نفسه، ومن يصحب السلطان لا ينجو من الآثام ،كما أن راكب العجل لا يأمن العثار، ولا يجب أن يأمن غضب السلطان إن صدقه ولا عقوبته إن كذبه ،ولا يجتريء عَلَيْهِ وإن أدناه ، لأن الحازم العاقل لا يشرب السمّ اتكالا على مَا عنده من الترياق والأدوية.
وإني لأستحب لمن امتحن بصحبة السلطان أن يعلمه لزوم تقوى اللَّه والعمل الصالح كأنه يتعلم منه ويؤدبه كأنه يتأدب به ،ويتقي سخطاته والسخط إذا كان من علة كان الرضا عنه موجودا ،وإذا كان من غير علة ينقطع حينئذ الرجاء ،ولا يجب أن يعلم كل مَا تأتي الملوك من أمورها لأن في معرفتهم إياها بعض الفتنة،
وهيهات من ذا صحب السلطان فلم يفتتن، ومن اتبع الهوى فلم يعطب، إن الشجرة الحسنة ربما كان سبب هلاكها طيب ثمرتها ،
وربما كان ذنب الطاووس الذي في جماله سبب حتفه لأنه يثقله حتى يمنعه من الهرب ،ومن صحب السلطان لم يأمن التغيير على نفسه، لأن الأنهار إنما تكون عذبة مَا لم تنصب الى البحور ،فإذا وقعت في البحور ملحت ،على أن قعود العلماء عَن أبواب الملوك زيادة في نور علمهم، وكثرة غشيانهم إياهم غشاوة على قلوبهم ،ومن صحب الملوك لم يأمن تغيرهم، ومن زايلهم لم يأمن تفقدهم، وإن قطع الأمور دونهم لم يأمن فيها مخالفتهم، وإن عزم على شيء لم يجد بدا من مؤامرتهم، وأسمج شيء بالملوك الحدة.
قال المبارك بْن سَعِيد الثوري : كان يقال خمس خلال هن أقبح شيء بمن كن فيه، الحدة في السلطان ،والكبر في ذي الحسب، والبخل في الغنى، والحرص في العالم ،والفتوة في الشيخ.
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه :رؤساء القوم أعظمهم هموما وأدومهم غموما وأشغلهم قلوبا وأشهرهم عيوبا وأكثرهم عدوا وأشدهم أحزانا وأنكاهم أشجانا وأكثرهم في القيامة حسابا وأشدهم إن لم يعف اللَّه عنهم عذابا.
ومن أحسن مَا يستعين به السلطان على أسبابه ،اتخاذ وزير عفيف ناصح على مَا تقدم ذكرنا له، فإن الوزير إذا غفل الأمير ذكره وإن ذكر أعانه وإن سولت له نفسه سيئة صده وإن أراد طاعة نشطه فهو المحبب له الى الناس والمستجلب له دعائهم.
ولقد حَدَّثَنَا عمرو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا الْغَلابِيُّ حَدَّثَنَا ابن عائشة عَن أبيه قَالَ :
بعث أَبُو جعفر إلى جعفر بْن مُحَمَّد قَالَ: إني أستشيرك في أمر إني قد تأنيت أهل المدينة مرة بعد أخرى فلا أراهم يرجعون ولا يعتبون،
وقد رأيت أن أبعث فأحرق نخلها وأغور عيونها ،فما ترى ؟
فسكت جعفر،
فقال :مالك لا تكلم ؟
قَالَ: إن أذنت لي تكلمت.
قَالَ: قل .
قَالَ : يا أمير المؤمنين، إن سليمان أعطي فشكر، وإن أيوب أبتلى فصبر، وإن يُوسُف قدر فغفر ،وقد جعلك الله من النسل الذي يعفون ويصفحون
قال، فطفيء غضبه وسكن.
حدثني مُحَمَّد بْن أَبِي علي الخلادي حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم بن سعيد عن محمد ابن حميد بْن فروة عَن أبيه قَالَ :
لما استقرت للمأمون الخلافة دعا إبراهيم بن مهدي المعروف بابن شكلة ،فوقف بين يديه ،
فقال : أنت المتوثب عليها تدعي الخلافة .
فقال إِبْرَاهِيم : يا أمير المؤمنين أنت ولي الثأر محكم في القصاص والعفو أقرب للتقوى وقد جعلك اللَّه فوق كل ذي ذنب كما جعل كل ذي ذنب دونك فإن أخذت أخذت بحق وإن عفوت عفوت بفضل ولقد حضرت أَبِي وهو جدك أتي برجل كان جرمه أعظم من جرمي،
فأمر الخليفة بقتله ،وعنده المبارك بْن فضالة ،فقال المبارك بْن فضالة:
إن رأى أمير المؤمنين أن يستأنى في أمر هذا الرجل حتى أحدثه بحديث سمعته من الحسن يحدث به عَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ :إيه يا مبارك
قَالَ: حدثني الْحَسَنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم قَالَ : إذا كان يوم القيامة نادى مناد مناد من بطنان العرش ألَا ليقمْ العافون من الخلفاء فلا يقوم إلا من عفا .
فقال الخليفة له :يا مبارك قد قبلت الحديث وعفوت عنه، أخرج أيها الرجل فلا سبيل لأحد عليك ،فقال المأمون يا عم ههنا يا عم ها هنا
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه: الواجب على من ملك أمور المسلمين الرجوع إلى اللَّه جل وعلا في كل لحظة وطرفة لئلا يطغيه مَا هو فيه من تسلطه بل يذكر عظمة اللَّه وقدرته وسلطانه وأنه هو المنتقم ممن ظلم والمجازي لمن أحسن فليلزم في إمرته السلوك الذي يؤديه إلى اكتساب الخير في الدارين،
وليعتبر بمن كان قبله من أشكاله فإنه لا محالة مسئول عَن شكر مَا هو فيه كما هو لا محالة مسئول عَن حسابه، إذا المصطفى صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وسلم قَالَ:
يقول اللَّه تبارك وتعالى يوم القيامة، ألم أحملك على الخير ورزقتك النساء وجعلتك ترأس وتربع ؟
فيقول :بلى
فيقول : فأين شكر ذلك؟
..
10- صفة الكريم واللئيم :
الكرم :
وهو طباع ركبها اللَّه في بني آدم ، فمن الناس من يكون أكرم من أبيه ،وربما كان الأب أكرم من ابنه ،وربما كان المملوك أكرم من مولاه ورب مولى أكرم من مملوكه. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ :قِيلَ يا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ ؟
قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ
قَالُوا : لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ.
قَالَ : فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونَنِي؟
قَالُوا نَعَمْ .
قَالَ: " خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا " .
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه :أكرم الناس من اتقى اللَّه والكريم التقي والتقوى هي العزم على إتيان المأمورات والانزجار عَن جميع المزجورات فمن صح عزمه على هاتين الخصلتين فهو التقي الذي يستحق اسم الكرم ومن ترى عن استعمالها أو أحدهما أو شعبة من شعبهما فقد نقص من كرمه مثله
قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ثَلاثُ خِصَالٍ لا تَجْتَمِعُ إِلا فِي كَرِيمٍ حُسْنُ الْمَحْضَرِ وَاحْتِمَالُ الزَّلَّةِ وَقِلَّةُ الْمَلالَةِ
وأنشدني ابن زنجي البغدادي:
رأيت الحق يعرفه الكريم ... لصاحبه وينكره اللئيم
إذا كان الفتى حسنا كريما ... فكل فعاله حسن كريم
إذا ألفيته سمحا لئيما ... فكل فعاله سمج لئيم ...
صفات الكريم :
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : الكريم لا يكون حقودا ولا حسودا ولا شامتا ولا باغيا ولا ساهيا ولا لاهيا ولا فاجرا ولا فخورا ولا كاذبا ولا ملولا ولا يقطع إلفه ولا يؤذي إخوانه ولا يضيع الحفاظ ولا يجفو في الوداد يعطي من لا يرجو ويؤمن من لا يخاف ويعفو عَن قدرة ويصل عَن قطيعة . احياء الكرم :
عَن إِبْرَاهِيم بْن شكلة قَالَ إن لكل شيء حياة وموتا وإن مما يَحْيَى الكرم مواصلة الكرماء وإن مما يحيى اللؤم معاشرة اللئام.
صفة اللئيم :
وأنشدني الكريزي :
وما بال قوم لئام ليس عندهم ... عهد وليس لهم دين إذا ائتمنوا
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ... منا وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بسوء عندهم أذنو
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه :الكريم يلين إذا استعطف واللئيم يقسو إذا ألطف.
والكريم يجل الكرام ولا يهين اللئام ولا يؤذي العاقل ولا يمازح الأحمق ولا يعاشر الفاجر مؤثرا إخوانه على نفسه باذلا لهم مَا ملك إذا اطلع على رغبة من أخ لم يدع مكافأتها وإذا عرف منه مودة لم ينظر في قلق العداوة وإذا أعطاه من نفسه الإخاء لم يقطعه بشيء من الأشياء
قَالَ الشعبي: إن كرام الناس أسرعهم مودة وأبطؤهم عداوة مثل الكوب من الفضة يبطيء الانكسار ويسرع الانجبار وإن لئام الناس أبطؤهم مودة وأسرعهم عداوة مثل الكوب من الفخار يسرع الإنكسار ويبطيء الانجبار
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه : الكريم من أعطاه شكره ومن منعه عذره ومن قطعه وصله ومن وصله فضله ومن سأله أعطاه ومن لم يسأله ابتدأه وإذا استضعف أحدا رحمه وإذا استضعفه أحد رأى الموت أكرم له منه واللئيم بضد مَا وصفنا من الخصال كلها
قال أَبُو حاتم رَضِيَ اللَّه عنه الكريم محمود الأثر في الدنيا مرضى العمل في العقبى يحبه القريب والقاصي ويألفه المتسخط والراضي يفارقه الأعداء واللئام ويصحبه العقلاء والكرام .
قول النبي صلى الله عليه وسلم "الكَرِيمُ، ابْنُ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ، ابْنِ الكَرِيمِ :يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ
قال الحافظ ابن حجر : الكريم أي الذي جمع كثرة الخير قوله كرائم أموالهم أي نفائسها.
قلت : يوسف الكريم الذي لم يخن الذي أحسن اليه ، ولم ينس دعوة الله في سجنه ، ولم يتعاطى اجرا في تفسير احلام صاحبيه في السجن،
ولم يبخل أو يغضب أو يكتم تفسير حلم الملك وهو في محبسه وزنزانته ولم يطلب أن يخرجوه من السجن قبل ،
ثم الكريم الذي عفا عن اخوته بل استقدمهم اليه وآواهم في مصر ،
ثم جده ابراهيم عليه السلام حين جاءه الضيف يقول الله تعالى " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ) .
الكرم في لسان العرب :
الكَريم: مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ وأَسمائه، وَهُوَ الْكَثِيرُ الْخَيْرِ، الجَوادُ المُعطِي الَّذِي لَا يَنْفَدُ عَطاؤه، وَهُوَ الْكَرِيمُ الْمُطْلَقُ.
والكَرِيم: الْجَامِعُ لأَنواع الْخَيْرِ والشرَف وَالْفَضَائِلِ.وهو اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحْمَد، فَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ كَرِيمٌ حَمِيدُ الفِعال وَرَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ الْعَظِيمِ.
قال ابْنُ سِيدَهْ: الكَرَم نَقِيضُ اللُّؤْم يَكُونُ فِي الرَّجُلِ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ آبَاءٌ،
وَيُسْتَعْمَلُ فِي الْخَيْلِ والإِبل وَالشَّجَرِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْجَوَاهِرِ إِذَا عَنَوُا العِتْق، وأَصله فِي النَّاسِ
قَالَ ابْنُ الأَعرابي: كَرَمُ الفرَس أَنْ يَرِقَّ جِلْدُهُ ويَلِين شَعْرُهُ وتَطِيب رَائِحَتُهُ. قلت قال الله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً )
قوله (كَرَّمْنا ) تَضْعِيفُ كَرَمَ، أَيْ جَعَلْنَا لَهُمْ كَرَمًا أَيْ شَرَفًا وَفَضْلًا. وَهَذَا هُوَ كَرَمُ نَفْيِ النُّقْصَانِ لَا كَرَمَ الْمَالِ.
وَهَذِهِ الْكَرَامَةُ يَدْخُلُ فِيهَا خَلْقُهُمْ عَلَى هَذِهِ الْهَيْئَةِ فِي امْتِدَادِ الْقَامَةِ وَحُسْنِ الصُّورَةِ، وَحَمْلُهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مِمَّا لَا يَصِحُّ لِحَيَوَانٍ سِوَى بَنِي آدَمَ أَنْ يَكُونَ يَتَحَمَّلُ بِإِرَادَتِهِ وَقَصْدِهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَتَخْصِيصِهِمْ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنَ الْمَطَاعِمِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ، وَهَذَا لَا يَتَّسِعُ فِيهِ حَيَوَانٌ اتِّسَاعَ بَنِي آدَمَ، لِأَنَّهُمْ يَكْسِبُونَ الْمَالَ خَاصَّةً دُونَ الْحَيَوَانِ، وَيَلْبَسُونَ الثِّيَابَ وَيَأْكُلُونَ الْمُرَكَّبَاتِ مِنَ الْأَطْعِمَةِ. وَغَايَةُ كُلِّ حَيَوَانٍ يَأْكُلُ لَحْمًا نيئا أو طعاما غير مُرَكَّبٍ.
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ أَنَّ التَّفْضِيلَ هُوَ أَنْ يَأْكُلَ بِيَدِهِ وَسَائِرُ الْحَيَوَانِ بِالْفَمِ.
وقال : بِتَسْلِيطِهِمْ عَلَى سَائِرِ الْخَلْقِ، وَتَسْخِيرِ سَائِرِ الْخَلْقِ لَهُمْ.
وَقِيلَ: أَكْرَمَ الرِّجَالَ بِاللِّحَى وَالنِّسَاءَ بِالذَّوَائِبِ.