التفسير |
تفسير القرآن الكريم :
فصل في المعنى والتفسير والتأويل :
مَعَانِي الْعِبَارَاتِ الَّتِي يُعَبَّرُ بِهَا عَنِ الْأَشْيَاءِ:
قال الزركشي : وهو يتوقف على معرفة تفسيره وتأويله ومعناه ،قال ابن فارس: معاني العبارات التي يُعبّر بِهَا عَنِ الْأَشْيَاءِ تَرْجِعُ إِلَى ثَلَاثَةٍ :الْمَعْنَى وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّأْوِيلِ وَهِيَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ فَالْمَقَاصِدُ بِهَا مُتَقَارِبَةٌ.المَعْنَى :
فَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ الْقَصْدُ وَالْمُرَادُ ،يُقَالُ: عَنَيْتُ بِهَذَا الْكَلَامِ كَذَا أَيْ قَصَدْتُ وَعَمَدْتُ ،وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْإِظْهَارِ يُقَالُ عَنَتِ الْقِرْبَةُ إِذَا لَمْ تَحْفَظِ الْمَاءَ بَلْ أَظْهَرَتْهُ وَمِنْهُ عُنْوَانُ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ عَنَتِ الْأَرْضُ بِنَبَاتٍ حَسَنٍ إِذَا أَنْبَتَتْ نَبَاتًا حَسَنًا.قُلْتُ: وَحَيْثُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: قَالَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فَمُرَادُهُمْ مُصَنِّفُو الْكُتُبِ فِي مَعَانِي الْقُرْآنِ كَالزَّجَّاجِ وَمَنْ قَبْلَهُ وَغَيْرِهِمْ وَفِي بَعْضِ كَلَامِ الْوَاحِدِيِّ أَكْبَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي الْفَرَّاءُ والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا كذا ومعاني الْقُرْآنِ لِلزَّجَّاجِ لَمْ يُصَنَّفْ مِثْلُهُ وَحَيْثُ أَطْلَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَهْلَ الْمَعَانِي فَمُرَادُهُمْ بِهِمْ مُصَنِّفُو الْعِلْمِ الْمَشْهُورِ
التفسير :
وَأَمَّا التَّفْسِيرُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الْإِظْهَارِ وَالْكَشْفِ وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ التَّفْسِرَةِ وَهِيَ الْقَلِيلُ مِنَ الْمَاءِ الَّذِي يَنْظُرُ فِيهِ الْأَطِبَّاءُ فَكَمَا أَنَّ الطَّبِيبَ بِالنَّظَرِ فِيهِ يَكْشِفُ عَنْ عِلَّةِ الْمَرِيضِ فَكَذَلِكَ الْمُفَسِّرُ يَكْشِفُ عَنْ شَأْنِ الْآيَةِ وَقَصَصِهَا وَمَعْنَاهَا وَالسَّبَبِ الَّذِي أُنْزِلَتْ فِيهِ وَكَأَنَّهُ تَسْمِيَةٌ بِالْمَصْدَرِ لِأَنَّ مَصْدَرَ فَعَّلَ جَاءَ أَيْضًا عَلَى تَفْعِلَةٍ نَحْوُ جَرَّبَ تَجْرِبَةً وَكَرَّمَ تَكْرِمَةًوَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيُّ: قَوْلُ الْعَرَبِ فَسَرْتُ الدَّابَّةَ وَفَسَّرْتُهَا إِذَا رَكَضْتَهَا مَحْصُورَةً لِيَنْطَلِقَ حَصَرُهَا وَهُوَ يُؤَوَّلُ إِلَى الْكَشْفِ أَيْضًا
فَالتَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُغْلَقِ مِنَ الْمُرَادِ بِلَفْظِهِ وَإِطْلَاقٌ لِلْمُحْتَبِسِ عَنِ الْفَهْمِ بِهِ وَيُقَالُ: فَسَّرْتُ الشَّيْءَ أُفَسِّرُهُ تَفْسِيرًا وَفَسَرْتُهُ أَفْسِرُهُ فَسْرًا وَالْمَزِيدُ مِنَ الْفِعْلَيْنِ أَكْثَرُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَبِمَصْدَرِ الثَّانِي منها سمى أبو الفتح ابن جِنِّي كُتُبَهُ الشَّارِحَةَ الْفَسْرَ
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مَقْلُوبٌ مِنْ سَفَرَ وَمَعْنَاهُ أَيْضًا الْكَشْفُ يُقَالُ: سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ سُفُورًا إِذَا أَلْقَتْ خِمَارَهَا عَنْ وَجْهِهَا وَهِيَ سَافِرَةٌ وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ أَضَاءَ وَسَافَرَ فُلَانٌ وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ لِأَنَّهُ لِلتَّكْثِيرِ كقوله تعالى: {يذبحون أبناءكم} {وغلقت الأبواب} فَكَأَنَّهُ يُتْبِعُ سُورَةً بَعْدَ سُورَةٍ وَآيَةً بَعْدَ أخرى
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَحْسَنَ تفسيرا} أَيْ تَفْصِيلًا
وَقَالَ الرَّاغِبُ: الْفَسْرُ وَالسَّفَرُ يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا كَتَقَارُبِ لَفْظَيْهِمَا لَكِنْ جُعِلَ الْفَسْرُ لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الْمَعْقُولِ وَمِنْهُ قِيلَ لِمَا يُنْبِئُ عَنْهُ الْبَوْلُ: تَفْسِرَةٌ وَسُمِّيَ بِهَا قَارُورَةُ الْمَاءِ وَجُعِلَ السَّفَرُ لِإِبْرَازِ الْأَعْيَانِ لِلْأَبْصَارِ فَقِيلَ سَفَرَتِ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا وَأَسْفَرَ الصُّبْحُ
وَفِي الِاصْطِلَاحِ: هُوَ عِلْمُ نُزُولِ الْآيَةِ وَسُورَتِهَا وَأَقَاصِيصِهَا وَالْإِشَارَاتِ النَّازِلَةِ فِيهَا ثُمَّ تَرْتِيبِ مَكِّيِّهَا وَمَدَنِيِّهَا وَمُحْكَمِهَا وَمُتَشَابِهِهَا وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامتها وَمُطْلَقِهَا وَمُقَيَّدِهَا وَمُجْمَلِهَا وَمُفَسَّرِهَا
وَزَادَ فِيهَا قَوْمٌ فَقَالُوا: عِلْمُ حَلَالِهَا وَحَرَامِهَا وَوَعْدِهَا وَوَعِيدِهَا وَأَمْرِهَا وَنَهْيِهَا وَعِبَرِهَا وَأَمْثَالِهَا وَهَذَا الَّذِي مُنِعَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ
تفسير الوضاح .
وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَآلِ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ وَقَدْ أَوَّلْتُهُ فَآلَ أَيْ صَرَفْتُهُ فَانْصَرَفَ، فَكَأَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَا تَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي،
وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في التفسير وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْإِيَالَةِ وَهَى السِّيَاسَةُ فَكَأَنَّ الْمُؤَوِّلَ لِلْكَلَامِ يُسَوِّي الْكَلَامَ وَيَضَعُ الْمَعْنَى فِيهِ موضعه
فَقِيلَ: التَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُرَادِ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَرَدُّ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِلَى مَا يُطَابِقُ الظَّاهِرَ،
قَالَ الرَّاغِبُ: التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأَوُّلِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَلْفَاظِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعَانِي كَتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَأَكْثَرُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّفْسِيرُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْسِيرَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ كَشْفُ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَبَيَانُ الْمُرَادِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَغَيْرِهِ وَبِحَسَبِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِ وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُهُ فِي الْجُمَلِ.
وَالتَّفْسِيرُ إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي غَرِيبِ الْأَلْفَاظِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ أَوْ فِي وَجِيزٍ مُبَيَّنٍ بِشَرْحٍ كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزكاة} وَإِمَّا فِي كَلَامٍ مُضَمَّنٍ لِقِصَّةٍ لَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ في الكفر} وَقَوْلِهِ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظهورها} ،
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَرَّةً عَامًّا وَمَرَّةً خَاصًّا نَحْوُ الْكُفْرِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي الْجُحُودِ الْمُطْلَقِ وَتَارَةً فِي جُحُودِ الْبَارِئِ خَاصَّةً وَالْإِيمَانُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّصْدِيقِ الْمُطْلَقِ تَارَةً وَفِي تَصْدِيقِ الْحَقِّ تَارَةً وَإِمَّا فِي لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ
وَقِيلَ: التَّأْوِيلُ كَشْفُ مَا انْغَلَقَ مِنَ الْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالَ الْبَجَلِيُّ: التَّفْسِيرُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَةِ وَالتَّأْوِيلُ يَتَعَلَّقُ بِالدِّرَايَةِ وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ الدَّالِّ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى
قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي التَّفْسِيرِ الِاتِّبَاعُ وَالسَّمَاعُ ، وَإِنَّمَا الِاسْتِنْبَاطُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّأْوِيلِ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا حُمِلَ عَلَيْهِ وَمَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ وُضِعَ لِأَشْيَاءَ مُتَمَاثِلَةٍ كَالسَّوَادِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ وُضِعَ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ ظَهَرَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ وَفِي الْآخَرِ مُجَازٌ كَلَفْظَةِ الْمَسِّ فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ فَمُجْمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ تَنَافَيَا فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَالْوَجْهُ عِنْدَنَا التَّوَقُّفُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْكَوَاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَعْنًى مُوَافِقٍ لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ ، قَالُوا وَهَذَا غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالتَّفْسِيرِ وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ فِي الْحَرْبِ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الَّذِي يُمْسِكُ عَنِ النَّفَقَةِ وقيل: الَّذِي يُنْفِقُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ وَقِيلَ: الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَلِكُلٍّ مِنْهُ مَخْرَجٌ وَمَعْنًى،
وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَنْدُوبِينَ إِلَى الْغَزْوِ عِنْدَ قيام النفير: {انفروا خفافا وثقالا} قِيلَ: شُيُوخًا وَشَبَابًا وَقِيلَ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَقِيلَ: عُزَّابًا وَمُتَأَهِّلِينَ وَقِيلَ: نُشَّاطًا وَغَيْرَ نُشَّاطٍ وَقِيلَ: مَرْضَى وَأَصِحَّاءَ وَكُلُّهَا سَائِغٌ جَائِزٌ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّ الشَّبَابَ وَالْعُزَّابَ وَالنُّشَّاطَ وَالْأَصِحَّاءَ خِفَافٌ وَضِدَّهُمْ ثِقَالٌ،
وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قِيلَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَقِيلَ: الْعَارِيَّةُ أَوِ الْمَاءُ أَوِ النَّارُ أَوِ الْكَلَأُ أَوِ الرَّفْدُ أَوِ الْمَغْرَفَةُ وَكُلُّهَا صَحِيحٌ لِأَنَّ مَانِعَ الْكُلِّ آثِمٌ،
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ على حرف} فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْ لَا يَدُومُ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَيْ عَلَى شَكٍّ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى دِينَهِ وَلَا تَسْتَقِيمُ الْبَصِيرَةُ فِيهِ،
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَيْسَ مَحْظُورًا عَلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِخْرَاجُهُ بل معرفته واجبة." انتهى
( التفسيرُ على أربعةِ أوجهٍ : وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها، وتفسير لاَ يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لاَ يعلمه إلا الله تعالى ذكره ) .
قال ابن كثير في مقدمته :
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير؟
فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر،
فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له .
وقال : إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جابر بن نوح، حدثنا الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود - : والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته. وقال الأعمش أيضًا، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن .
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجمان القرآن وببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل".
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مُسْلم قال قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: نعْم ترجمان القرآن ابنُ عباس .
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود: أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود، رضي الله عنه، في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس ستًا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود ؟.
وقال ابن كثير : إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جَبْر فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد ، قال : ( عَرضْتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها ) .
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة ؟ فكيف تكون حجة في التفسير ؟
يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام .
وذكر ابن كثير أخبارا عن السلف منها : وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: إنا لا نقول في القرآن شيئًا .
وقال أيوب، وابن عَوْن، وهشام الدَّسْتوائِي، عن محمد بن سيرين: سألت عبَيدة السلماني، عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن ؟ فاتَّق الله، وعليك بالسداد .
ثم قال ابن كثير : فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به؛
فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا ، فلا حرج عليه ؛
ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ، ولا منافاة ؛
لأنهم تكلموا فيما علموه ، وسكتوا عما جهلوه ،
وهذا هو الواجب على كل أحد ؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187] .
فَمِنْهُ (الْهُدَى ) سَبْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا:
بِمَعْنَى الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ على هدى من ربهم}
وبمعنى الدين: {إن الهدى هدى الله}
وَبِمَعْنَى الْإِيمَانِ: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}
وبمعنى الداعي: {ولكل قوم هاد} {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}
وَبِمَعْنَى الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}
وبمعنى المعرفة: {وبالنجم هم يهتدون}
وبمعنى الرشاد: {اهدنا الصراط المستقيم}
- فصل في مَعْرِفَةُ التَّصْرِيفِ :
قال : في قوله تعالى ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) الاية 95 المائدة ، والصواب أن يقال لم يخصص الحكم المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه، ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه، بل عمَّ في التنزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا ،
وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه.
فإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه، أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه، أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه، في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا ،
وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، دون القول الذي قاله مجاهد .
وقال الحافظ ابن حجر : "( أن الأصل عدم النسخ )
ولا يقبل قول القائل حين يجد ثمة تعارض بين آيتين أو حديثين : ( أن أحدهما منسوخ ) ، بل يجب وجود معه دليل وتوافر شروط .
وقال : النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع إمكان الجمع" .اهـ
قالوا : شروط يجب توافرها لقبول دعوى النسخ :
1- دليل من كتاب أو سنّة أو اجماع ،
2- معرفة أكيدة بالتواريخ .
3- وجود اختلاف بين حكم شرعي وآخر ويتعذر الجمع بينهما .
( و الجمع بينهما يكون اما بتقييد المطلق أو تخصيص العام ،
أو أن يكون أحد الحكمين ثابتا في حالة والحكم الآخر ثابت في حالة اخرى .
4- أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله ،
وهذا الشرط مختلف فيه ،
فلم يجوّز الشافعي وقول لأحمد أن يُنسخ القرآن بالسنّة ،
وأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة .
والأول أصحّ لأنه لا يجوز للضعيف أن ينسخ الأقوى .
وقال الطبري في ( البقرة الاية 229) :
" فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ ، إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة.
وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة،
وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل ".
وقال في الاية 282 :
" وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة، على السبيل التي قد بيناها. فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء " .
و في موضع من سورة الأنعام :
المنسوخ : هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة .
و( اذا ) لم يكن في الآية دليلٌ واضح على أنها منسوخة، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ ، كان غير جائز أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخة، حتى تقوم حجةٌ موجبةٌ صحةَ القول بذلك .
ثالثا : فخر الدين الرازي:
قال في تفسير قصة النبي يوسف عليه الاية(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ) بعد ذكر روايات عن كيف بيع يوسف :
وَاعْلَمْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَيْضًا فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ وَتَفْسِيرُ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَالْأَلْيَقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ ذِكْرِهَا.
قال الطبري : فأما ما روى عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا.
وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله .
وقال الرازي : ولَفْظَ الْوَاحِدِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُجْمَعْ ، كَقَوْلِهِ "وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً "[الْفُرْقَانِ: 14] فَوَقَعَ الِاسْمُ الواحد على الجمع.
قلت . وهذا يفسر تنوع القرآت ، قال تعالى ( (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
قال الرازي : قَرَأَ نَافِعٌ "رِسالاتِهِ "فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْأَنْعَامِ "حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ [الْأَنْعَامِ: 124] على الجمع،
وفي الأعراف "بِرِسالاتِي" [ 144] عَلَى الْوَاحِدِ،
وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى الضِّدِّ، فَفِي الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَفِي الْأَعْرَافِ عَلَى الْجَمْعِ،
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجَمِيعِ عَلَى الْوَاحِدِ،
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ كُلُّهُ عَلَى الْجَمْعِ.
فنهي على العموم ، والجمهور خصصه بالأخبار الصحيحة في جواز أكل الصيد اذا اصطاده الحلال دون يقصد المحرم أو قام باعانته على الصيد ( حديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش )
ومنه قول الله تعالى: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53].
قَوْلُهُ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) صِيغَةٌ لِلْجَمْعِ مَعَ لَامِ التَّعْرِيفِ وَهِيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِظَاهِرِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا هَذَا الظَّاهِرَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ أَسْلَمُوا، فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْعَامِّ وَيَكُونُ مُرَادُهُ الْخَاصَّ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الْقَرِينَةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ ذَلِكَ الْخُصُوصُ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسُنَ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّلْبِيسِ وَظُهُورِ الْمَقْصُودِ، وَمِثَالُهُ مَا إِذَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْبَلَدِ جَمْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ، فَإِذَا قَالَ: "إِنَّ النَّاسَ يُؤْذُونَنِي" ،فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ الْجَمْعُ عَلَى التَّعْيِينِ،
وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَيَانُ مَقْرُونًا بِهِ، عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ،
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ عَلَى الْقَطْعِ بِالِاسْتِغْرَاقِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُوَ الْخَاصُّ،
وَكَانَتِ الْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ ذَلِكَ..."
وذكر الطبري في تفسيرها عن الربيع بن أنس: أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم، ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة لم يَجُز أن تكون الآية نزلت إلَّا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
-(قلت.ومثله كلمة "الناس " في قوله تعالى بعد غزوة أحد في سورة آل عمران : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ) 173 ، فالناس يراد به الخاص وهم الجماعة الذين أخبروا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه بما أعده لهم قريش وحلفاؤها وهم المقصودين ب "الناس " الثانية في الآية ،
وايضا كلمة "الأرض" في قصة يوسف وأخوته كان يراد بها أرض مصر خاصة، قال تعالى على لسان كبيرهم" فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي " الآية 80 ،وليس كل الأرض كما تأتي غالبا كقوله "لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" أو "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ " )
التأويل :
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنَ الْأَوْلِ وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ: مَا تَأْوِيلُ هَذَا الكلام؟ أي إلام تَؤُولُ الْعَاقِبَةُ فِي الْمُرَادِ بِهِ كَمَا قَالَ تعالى: {يوم يأتي تأويله} أَيْ تُكْشَفُ عَاقِبَتُهُ وَيُقَالُ آلَ الْأَمْرُ إِلَى كَذَا أَيْ صَارَ إِلَيْهِ وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَآلِ وَهُوَ الْعَاقِبَةُ وَالْمَصِيرُ وَقَدْ أَوَّلْتُهُ فَآلَ أَيْ صَرَفْتُهُ فَانْصَرَفَ، فَكَأَنَّ التَّأْوِيلَ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَا تَحْتَمِلُهُ مِنَ الْمَعَانِي،
وَإِنَّمَا بَنَوْهُ عَلَى التَّفْعِيلِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في التفسير وَقِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الْإِيَالَةِ وَهَى السِّيَاسَةُ فَكَأَنَّ الْمُؤَوِّلَ لِلْكَلَامِ يُسَوِّي الْكَلَامَ وَيَضَعُ الْمَعْنَى فِيهِ موضعه
الفرق بين التفسير والتأويل:
ثُمَّ قِيلَ: التَّفْسِيرُ وَالتَّأْوِيلُ وَاحِدٌ بِحَسَبِ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَالصَّحِيحُ تَغَايُرُهُمَا ،وَاخْتَلَفُوا ،فَقِيلَ: التَّفْسِيرُ كَشْفُ الْمُرَادِ عَنِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَرَدُّ أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ إِلَى مَا يُطَابِقُ الظَّاهِرَ،
قَالَ الرَّاغِبُ: التَّفْسِيرُ أَعَمُّ مِنَ التَّأَوُّلِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْأَلْفَاظِ وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِ التَّأْوِيلِ فِي الْمَعَانِي كَتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا وَأَكْثَرُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ وَالتَّفْسِيرُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهَا وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي مَعَانِي مُفْرَدَاتِ الْأَلْفَاظِ
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْسِيرَ فِي عُرْفِ الْعُلَمَاءِ كَشْفُ مَعَانِي الْقُرْآنِ وَبَيَانُ الْمُرَادِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِحَسَبِ اللَّفْظِ الْمُشْكَلِ وَغَيْرِهِ وَبِحَسَبِ الْمَعْنَى الظَّاهِرِ وَغَيْرِهِ وَالتَّفْسِيرُ أَكْثَرُهُ فِي الْجُمَلِ.
وَالتَّفْسِيرُ إِمَّا أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي غَرِيبِ الْأَلْفَاظِ كَالْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ أَوْ فِي وَجِيزٍ مُبَيَّنٍ بِشَرْحٍ كَقَوْلِهِ: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزكاة} وَإِمَّا فِي كَلَامٍ مُضَمَّنٍ لِقِصَّةٍ لَا يُمْكِنُ تَصْوِيرُهُ إِلَّا بِمَعْرِفَتِهَا كَقَوْلِهِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ في الكفر} وَقَوْلِهِ: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظهورها} ،
وَأَمَّا التَّأْوِيلُ فَإِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مَرَّةً عَامًّا وَمَرَّةً خَاصًّا نَحْوُ الْكُفْرِ يُسْتَعْمَلُ تَارَةً فِي الْجُحُودِ الْمُطْلَقِ وَتَارَةً فِي جُحُودِ الْبَارِئِ خَاصَّةً وَالْإِيمَانُ الْمُسْتَعْمَلُ فِي التَّصْدِيقِ الْمُطْلَقِ تَارَةً وَفِي تَصْدِيقِ الْحَقِّ تَارَةً وَإِمَّا فِي لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ
وَقِيلَ: التَّأْوِيلُ كَشْفُ مَا انْغَلَقَ مِنَ الْمَعْنَى وَلِهَذَا قَالَ الْبَجَلِيُّ: التَّفْسِيرُ يَتَعَلَّقُ بِالرِّوَايَةِ وَالتَّأْوِيلُ يَتَعَلَّقُ بِالدِّرَايَةِ وَهُمَا رَاجِعَانِ إِلَى التِّلَاوَةِ وَالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ الدَّالِّ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ الْقَائِمِ بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى
قَالَ أَبُو نَصْرٍ الْقُشَيْرِيُّ: وَيُعْتَبَرُ فِي التَّفْسِيرِ الِاتِّبَاعُ وَالسَّمَاعُ ، وَإِنَّمَا الِاسْتِنْبَاطُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالتَّأْوِيلِ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ إِلَّا مَعْنًى وَاحِدًا حُمِلَ عَلَيْهِ وَمَا احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ وُضِعَ لِأَشْيَاءَ مُتَمَاثِلَةٍ كَالسَّوَادِ حُمِلَ عَلَى الْجِنْسِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَإِنْ وُضِعَ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنْ ظَهَرَ أَحَدُ الْمَعْنَيَيْنِ حُمِلَ عَلَى الظَّاهِرِ إِلَّا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الِاسْتِعْمَالُ فِيهِمَا حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ وَفِي الْآخَرِ مُجَازٌ كَلَفْظَةِ الْمَسِّ فَإِنْ تَنَافَى الْجَمْعُ فَمُجْمَلٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبَيَانِ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ تَنَافَيَا فَقَدْ قَالَ قَوْمٌ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ وَالْوَجْهُ عِنْدَنَا التَّوَقُّفُ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ حَبِيبٍ النَّيْسَابُورِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْكَوَاشِيُّ وَغَيْرُهُمْ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ الْآيَةِ إِلَى مَعْنًى مُوَافِقٍ لِمَا قَبْلَهَا وَمَا بَعْدَهَا تَحْتَمِلُهُ الْآيَةُ غَيْرِ مُخَالِفٍ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ ، قَالُوا وَهَذَا غَيْرُ مَحْظُورٍ عَلَى الْعُلَمَاءِ بِالتَّفْسِيرِ وَقَدْ رَخَّصَ فِيهِ أَهْلُ الْعِلْمِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قِيلَ: هُوَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ فِي الْحَرْبِ عَلَى مِائَةِ رَجُلٍ وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَقِيلَ: الَّذِي يُمْسِكُ عَنِ النَّفَقَةِ وقيل: الَّذِي يُنْفِقُ الْخَبِيثَ مِنْ مَالِهِ وَقِيلَ: الَّذِي يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ وَلِكُلٍّ مِنْهُ مَخْرَجٌ وَمَعْنًى،
وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى لِلْمَنْدُوبِينَ إِلَى الْغَزْوِ عِنْدَ قيام النفير: {انفروا خفافا وثقالا} قِيلَ: شُيُوخًا وَشَبَابًا وَقِيلَ: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ وَقِيلَ: عُزَّابًا وَمُتَأَهِّلِينَ وَقِيلَ: نُشَّاطًا وَغَيْرَ نُشَّاطٍ وَقِيلَ: مَرْضَى وَأَصِحَّاءَ وَكُلُّهَا سَائِغٌ جَائِزٌ وَالْآيَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَيْهَا لِأَنَّ الشَّبَابَ وَالْعُزَّابَ وَالنُّشَّاطَ وَالْأَصِحَّاءَ خِفَافٌ وَضِدَّهُمْ ثِقَالٌ،
وَمِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قِيلَ: الزَّكَاةُ الْمَفْرُوضَةُ وَقِيلَ: الْعَارِيَّةُ أَوِ الْمَاءُ أَوِ النَّارُ أَوِ الْكَلَأُ أَوِ الرَّفْدُ أَوِ الْمَغْرَفَةُ وَكُلُّهَا صَحِيحٌ لِأَنَّ مَانِعَ الْكُلِّ آثِمٌ،
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ على حرف} فَسَّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْ لَا يَدُومُ وَقَالَ ثَعْلَبٌ: أَيْ عَلَى شَكٍّ وَكِلَاهُمَا قَرِيبٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى دِينَهِ وَلَا تَسْتَقِيمُ الْبَصِيرَةُ فِيهِ،
فَهَذَا وَأَمْثَالُهُ لَيْسَ مَحْظُورًا عَلَى الْعُلَمَاءِ اسْتِخْرَاجُهُ بل معرفته واجبة." انتهى
- طرق التفسير :
قال ابن جرير الطبري في مقدمته : حدثنا محمد بن بشّار، قال: حدثنا مؤمَّل، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، قال: قال ابن عباس:( التفسيرُ على أربعةِ أوجهٍ : وجهٌ تعرفه العربُ من كلامها، وتفسير لاَ يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لاَ يعلمه إلا الله تعالى ذكره ) .
قال ابن كثير في مقدمته :
فإن قال قائل : فما أحسن طرق التفسير؟
فالجواب: إن أصح الطرق في ذلك أن يُفَسَّر القرآن بالقرآن، فما أُجْمِل في مكان فإنه قد فُسِّر في موضع آخر،
فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له .
وقال : إذا لم نجد التفسير في القرآن ولا في السنة، رجعنا في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك، لما شاهدوا من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام، والعلم الصحيح، والعمل الصالح، لا سيما علماؤهم وكبراؤهم، كالأئمة الأربعة والخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنه.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير حدثنا أبو كُرَيْب، حدثنا جابر بن نوح، حدثنا الأعمش، عن أبي الضُّحَى، عن مسروق، قال: قال عبد الله - يعني ابن مسعود - : والذي لا إله غيره، ما نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت؟ وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته. وقال الأعمش أيضًا، عن أبي وائل، عن ابن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن .
ومنهم الحبر البحر عبد الله بن عباس، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترجمان القرآن وببركة دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له حيث قال: "اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل".
وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا وَكِيع، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مُسْلم قال قال عبد الله -يعني ابن مسعود-: نعْم ترجمان القرآن ابنُ عباس .
فهذا إسناد صحيح إلى ابن مسعود: أنه قال عن ابن عباس هذه العبارة. وقد مات ابن مسعود، رضي الله عنه، في سنة اثنتين وثلاثين على الصحيح، وعُمِّر بعده ابن عباس ستًا وثلاثين سنة، فما ظنك بما كسبه من العلوم بعد ابن مسعود ؟.
وقال ابن كثير : إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، كمجاهد بن جَبْر فإنه كان آية في التفسير، كما قال محمد بن إسحاق: حدثنا أبان بن صالح، عن مجاهد ، قال : ( عَرضْتُ المصحف على ابن عباس ثلاث عرضات، من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية منه، وأسأله عنها ) .
وقال شعبة بن الحجاج وغيره: أقوال التابعين في الفروع ليست حجة ؟ فكيف تكون حجة في التفسير ؟
يعني: أنها لا تكون حجة على غيرهم ممن خالفهم ، وهذا صحيح، أما إذا أجمعوا على الشيء فلا يرتاب في كونه حجة، فإن اختلفوا فلا يكون بعضهم حجة على بعض، ولا على من بعدهم، ويرجع في ذلك إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب، أو أقوال الصحابة في ذلك.
فأما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام .
وذكر ابن كثير أخبارا عن السلف منها : وقال مالك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب: إنه كان إذا سئل عن تفسير آية من القرآن، قال: إنا لا نقول في القرآن شيئًا .
وقال أيوب، وابن عَوْن، وهشام الدَّسْتوائِي، عن محمد بن سيرين: سألت عبَيدة السلماني، عن آية من القرآن فقال: ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن ؟ فاتَّق الله، وعليك بالسداد .
ثم قال ابن كثير : فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف محمولة على تحرجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به؛
فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعًا ، فلا حرج عليه ؛
ولهذا روي عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير ، ولا منافاة ؛
لأنهم تكلموا فيما علموه ، وسكتوا عما جهلوه ،
وهذا هو الواجب على كل أحد ؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سئل عنه مما يعلمه، لقوله تعالى: { لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ } [آل عمران: 187] .
- فصل : في وجوه تفسير ألفاظ القرآن :
قال الزركشي : وَذَكَرَ مُقَاتِلٌ فِي صَدْرِ كِتَابِهِ حَدِيثًا مَرْفُوعًا : لَا يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيهًا كُلَّ الْفِقْهِ حَتَّى يَرَى لِلْقُرْآنِ وُجُوهًا كَثِيرَةً ،فَمِنْهُ (الْهُدَى ) سَبْعَةَ عَشَرَ حَرْفًا:
بِمَعْنَى الْبَيَانِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ على هدى من ربهم}
وبمعنى الدين: {إن الهدى هدى الله}
وَبِمَعْنَى الْإِيمَانِ: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}
وبمعنى الداعي: {ولكل قوم هاد} {وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا}
وَبِمَعْنَى الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى}
وبمعنى المعرفة: {وبالنجم هم يهتدون}
وبمعنى الرشاد: {اهدنا الصراط المستقيم}
- فصل في مَعْرِفَةُ التَّصْرِيفِ :
قواعد في تفسير القرآن :
أولا – قاعدة في ظاهر التنزيل :
قال ابن جرير الطبري : وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب ، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه .قال : في قوله تعالى ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ) الاية 95 المائدة ، والصواب أن يقال لم يخصص الحكم المتعمِّد قتلَه في حال نسيانه إحرامَه، ولا المخطئَ في قتله في حال ذكره إحرامَه، بل عمَّ في التنزيل بإيجاب الجزاء، كلَّ قاتل صيد في حال إحرامه متعمدًا ،
وغير جائز إحالة ظاهر التنزيل إلى باطن من التأويل لا دلالة عليه من نصّ كتاب، ولا خبر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من الأمة. ولا دلالةَ من بعض هذه الوجوه.
فإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ كان قاتل الصيد من المحرمين عامدًا قتلَه ذاكرًا لإحرامه، أو عامدًا قتله ناسيًا لإحرامه، أو قاصدًا غيره فقتله ذاكرًا لإحرامه، في أن على جميعهم من الجزاء ما قال ربنا تعالى ذكره، وهو: مثلُ ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل من المسلمين، أو كفارة طعامُ مساكين، أو عدل ذلك صيامًا ،
وهذا قول عطاء والزهري الذي ذكرناه عنهما، دون القول الذي قاله مجاهد .
- قاعدة : قال الطبري في تأويل قوله تعالى ( وفار التنّور ) هود:
وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: (التنور) ، قول من قال: "هو التنور الذي يخبز فيه"، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حجَّة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به، لإفهامهم معنى مَا خاطبهم به.ثانيا – قاعدة في النسخ في القرآن :
قال الطبري : والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي.وقال الحافظ ابن حجر : "( أن الأصل عدم النسخ )
ولا يقبل قول القائل حين يجد ثمة تعارض بين آيتين أو حديثين : ( أن أحدهما منسوخ ) ، بل يجب وجود معه دليل وتوافر شروط .
وقال : النسخ لا يصار إليه بالاحتمال، ولا سيما مع إمكان الجمع" .اهـ
قالوا : شروط يجب توافرها لقبول دعوى النسخ :
1- دليل من كتاب أو سنّة أو اجماع ،
2- معرفة أكيدة بالتواريخ .
3- وجود اختلاف بين حكم شرعي وآخر ويتعذر الجمع بينهما .
( و الجمع بينهما يكون اما بتقييد المطلق أو تخصيص العام ،
أو أن يكون أحد الحكمين ثابتا في حالة والحكم الآخر ثابت في حالة اخرى .
4- أن يكون الناسخ أقوى من المنسوخ أو مثله ،
وهذا الشرط مختلف فيه ،
فلم يجوّز الشافعي وقول لأحمد أن يُنسخ القرآن بالسنّة ،
وأجاز ذلك مالك وأبو حنيفة .
والأول أصحّ لأنه لا يجوز للضعيف أن ينسخ الأقوى .
وقال الطبري في ( البقرة الاية 229) :
" فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ ، إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة.
وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة،
وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل ".
وقال في الاية 282 :
" وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة، على السبيل التي قد بيناها. فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء " .
و في موضع من سورة الأنعام :
المنسوخ : هو ما لم يجز اجتماعه وناسخه في حال واحدة .
و( اذا ) لم يكن في الآية دليلٌ واضح على أنها منسوخة، ولا ورد بأنها منسوخة عن الرسول خبرٌ ، كان غير جائز أن يُقْضَى عليها بأنها منسوخة، حتى تقوم حجةٌ موجبةٌ صحةَ القول بذلك .
ثالثا : فخر الدين الرازي:
قال في تفسير قصة النبي يوسف عليه الاية(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ ) بعد ذكر روايات عن كيف بيع يوسف :
وَاعْلَمْ أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَيْضًا فِي خَبَرٍ صَحِيحٍ وَتَفْسِيرُ كِتَابِ اللَّه تَعَالَى لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ، فَالْأَلْيَقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ ذِكْرِهَا.
ثالثا - قراءات رويت من مصاحف غير مصحف عثمان مثل أبي بن كعب وابن مسعود رضي الله عنهم .
قال تعالى: ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ) آية المائدة 89قال الطبري : فأما ما روى عن أبيّ وابن مسعود من قراءتهما: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) ، فذلك خلاف ما في مصاحفنا.
وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا من الكلام أنه من كتاب الله .
رابعا - العرب قد توقع الجمع على الواحد .
قاله ابن الانباري .وقال الرازي : ولَفْظَ الْوَاحِدِ قَدْ يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ وَإِنْ لَمْ يُجْمَعْ ، كَقَوْلِهِ "وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً "[الْفُرْقَانِ: 14] فَوَقَعَ الِاسْمُ الواحد على الجمع.
قلت . وهذا يفسر تنوع القرآت ، قال تعالى ( (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ }
قال الرازي : قَرَأَ نَافِعٌ "رِسالاتِهِ "فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي الْأَنْعَامِ "حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَاتِهِ [الْأَنْعَامِ: 124] على الجمع،
وفي الأعراف "بِرِسالاتِي" [ 144] عَلَى الْوَاحِدِ،
وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى الضِّدِّ، فَفِي الْمَائِدَةِ وَالْأَنْعَامِ عَلَى الْوَاحِدِ، وَفِي الْأَعْرَافِ عَلَى الْجَمْعِ،
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْجَمِيعِ عَلَى الْوَاحِدِ،
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ كُلُّهُ عَلَى الْجَمْعِ.
خامسا - من قال بتَخْصِيصِ عُمُومِ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
مثل قوله تعالى ( وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً )فنهي على العموم ، والجمهور خصصه بالأخبار الصحيحة في جواز أكل الصيد اذا اصطاده الحلال دون يقصد المحرم أو قام باعانته على الصيد ( حديث أبي قتادة حين صاد حمار وحش )
سادسا - العرب قد تسمي اليقين ظنا، والشك ظنًا.
قاله ابن جرير، رحمه الله:ومنه قول الله تعالى: { وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53].
سابعا: العام قد يراد به الخاص :
قال الرازي في شرح الاية رقم 6 سورة البقرة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ):قَوْلُهُ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) صِيغَةٌ لِلْجَمْعِ مَعَ لَامِ التَّعْرِيفِ وَهِيَ لِلِاسْتِغْرَاقِ بِظَاهِرِهِ ، ثُمَّ إِنَّهُ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا هَذَا الظَّاهِرَ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْكُفَّارِ أَسْلَمُوا، فَعَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ يَتَكَلَّمُ بِالْعَامِّ وَيَكُونُ مُرَادُهُ الْخَاصَّ، إِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ الْقَرِينَةَ الدَّالَّةَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ الْعُمُومِ ذَلِكَ الْخُصُوصُ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَسُنَ ذَلِكَ لِعَدَمِ التَّلْبِيسِ وَظُهُورِ الْمَقْصُودِ، وَمِثَالُهُ مَا إِذَا كَانَ لِلْإِنْسَانِ فِي الْبَلَدِ جَمْعٌ مَخْصُوصٌ مِنَ الْأَعْدَاءِ، فَإِذَا قَالَ: "إِنَّ النَّاسَ يُؤْذُونَنِي" ،فَهِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُرَادَهُ مِنَ النَّاسِ ذَلِكَ الْجَمْعُ عَلَى التَّعْيِينِ،
وَإِمَّا لِأَجْلِ أَنَّ التَّكَلُّمَ بِالْعَامِّ لِإِرَادَةِ الْخَاصِّ جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْبَيَانُ مَقْرُونًا بِهِ، عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ التَّخْصِيصِ عَنْ وَقْتِ الْخِطَابِ،
وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ التَّمَسُّكُ بِشَيْءٍ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ عَلَى الْقَطْعِ بِالِاسْتِغْرَاقِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهَا هُوَ الْخَاصُّ،
وَكَانَتِ الْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرَةً فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَا جَرَمَ حَسُنَ ذَلِكَ..."
وذكر الطبري في تفسيرها عن الربيع بن أنس: أنّ الله تعالى ذكره لمّا أخبرَ عن قوم من أهل الكفر بأنهم لا يؤمنون، وأن الإنذارَ غيرُ نافعهم، ثم كانَ من الكُفّار من قد نَفَعه الله بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إيّاه، لإيمانه بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله بعد نزول هذه السورة لم يَجُز أن تكون الآية نزلت إلَّا في خاصٍّ من الكفار وإذ كان ذلك كذلك - وكانت قادةُ الأحزاب لا شك أنَّهم ممن لم ينفعه الله عز وجل بإنذار النبي صلى الله عليه وسلم إياه، حتى قتلهم الله تبارك وتعالى بأيدي المؤمنين يوم بدرٍ - عُلم أنهم مِمّن عنَى الله جل ثناؤه بهذه الآية.
-(قلت.ومثله كلمة "الناس " في قوله تعالى بعد غزوة أحد في سورة آل عمران : (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ) 173 ، فالناس يراد به الخاص وهم الجماعة الذين أخبروا محمد صلى الله عليه وسلم وصحبه بما أعده لهم قريش وحلفاؤها وهم المقصودين ب "الناس " الثانية في الآية ،
وايضا كلمة "الأرض" في قصة يوسف وأخوته كان يراد بها أرض مصر خاصة، قال تعالى على لسان كبيرهم" فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي " الآية 80 ،وليس كل الأرض كما تأتي غالبا كقوله "لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ" أو "إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ " )