شرح الحديث |
حديث يا عبادي كلكم ضالّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم :
الهداية رزق من الله :
حديث صحيح أخرجه مسلم والترمذي وغيرهم ،
قال فيه: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني
يا عبادي كلكم جائع، إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم،
يا عبادي كلكم عار، إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم ... الحديث .
وفي رواية : يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم، وكلكم فقير إلا من أغنيت فسلوني أرزقكم، وكلكم مذنب إلا من عافيت، فمن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فاستغفرني غفرت له ولا أبالي...الحديث
وقال تعالى : يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ " الحجرات 17.
كيف يهدي البعض ويضل آخرين :
الله العليم الحكيم الرحيم القدير:
هذه القضية الدقيقة والمسألة الشرعية ، يحكمها صفات الله من العلم والحكمة والرحمة والقدرة .
فبرحمة الله تلين القلوب قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم" فبرحمة من الله لنت لهم " .
وبرحمة الله أُنزلت الرسل والكتب لهداية الناس وارشادهم ثم اعانة بعضهم على الهدى .
وبعلم الله ، علم القلوب التي أراد هدايتها .
وبحكمة الله منع ضلالها وعصمها من اتباع الشياطين .
وبقدرة الله مكنها من العمل والاستطاعة .
والله يعلم خبايا النفس المدفونة قال تعالى : ونحن أقرب اليه من حبل الوريد " وقال " الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه " ،
ويعلم هوى النفوس ورغبتها إما في الضلال أو الهداية ،
فيوفق من علم فيه خيرا للهداية ،ويخذل من علم فيه الشر والغواية .
شرح الحديث عن الهداية والاضلال :
قال القرطبي في المفهم :
قيل في معنى الحديث قولان: أحدهما:
أن الناس لو تركوا مع العادات، وما تقتضيه الطباع من الميل إلى الراحات، وإهمال النظر المؤدي إلى المعرفة لغلبت عليهم العادات والطباع فضلوا عن الحق، فهذا هو الضلال المعني،
لكن من أراد الله تعالى توفيقه ألهمه إلى إعمال الفكر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم وأعانه على الوصول إلى ذلك، وعلى العمل بمقتضاه، وهذا هو الهدى الذي أمرنا الله بسؤاله .
وثانيهما: أن الضلال هاهنا يعني به: الحال التي كانوا عليها قبل إرسال الرسل من: الشرك، والكفر، والجهالات، وغير ذلك، كما قال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} أي: على حالة واحدة من الضلال والجهل، فأرسل الله الرسل ليزيلوا عنهم ما كانوا عليه من الضلال، ويبين لهم مراد الحق منهم في حالهم، ومآل أمرهم، فمن نبهه الحق سبحانه وتعالى، وبصره، وأعانه فهو المهتدي، ومن لم يفعل الله به ذلك بقي على ذلك الضلال.
وعلى كل واحد من التأويلين فلا معارضة بين قوله تعالى- في الحديث- :
"كلكم ضال إلا من هديته" ، وبين قوله:
" كل مولود يولد على الفطرة " ،
لأنَّ هذا الضلال المقصود في هذا الحديث هو الطارئ على الفطرة الأولى المغير لها، الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم وبقوله: خلق الله الخلق على معرفته فاجتالتهم الشياطين .
وهذا الحديث حجَّة لأهل الحق على قولهم: إن الهدى والضلال خلقه الله وفعله يختص بما شاء منهما من شاء من خلقه،
وأن ذلك لا يقدر عليه إلا هو، كما قال تعالى: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهدِي مَن يَشَاءُ} ،
وكما قال: {وَمَا كُنَّا لِنَهتَدِيَ لَولا أَن هَدَانَا اللَّهُ} ،
وكما قال: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} ،
وقد نطق الكتاب بما لا يبقى معه ريب لذي فهم سليم بقوله: {وَاللَّهُ يَدعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُستَقِيمٍ} فعمّ الدعوة، وخَصّ بالهداية من سبقت له العناية. واستيفاء الكلام في علم الكلام.
وحاصل قوله: كلكم ضال إلا من هديته، وكلكم جائع، وكلكم عار التنبيه على فقرنا وعجزنا عن جلب منافعنا، ودفع مضارنا بأنفسنا؛ إلا أن ييسر ذلك لنا؛ بأن يخلق ذلك لنا، ويعيننا عليه، ويصرف عنا ما يضرنا.
وهو تنبيه على معنى قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ،
تنبيه غير معارض :
ثم ختم القرطبي قائلا: ومع ذلك فقال في آخر الحديث:
" يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه "،
تنبيها على أن عدم الاستقلال بإيجاد الأعمال لا يناقض خطاب التكليف بها، إقداما عليها، وإحجاما عنها،
فنحن – وإن كنا نعلم أنا لا نستقل بأفعالنا- نحس بوجدان الفرق بين الحركة الضرورية والاختيارية،
وتلك التفرقة راجعة إلى تمكن محسوس، وتأتٍّ معتاد يوجد مع الاختيارية، ويفقد مع الضرورية، وذلك هو المعبر عنه بالكسب، وهو مورد التكليف، فلا تناقض ولا تعنيف.
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ :
سورة النور الاية 21
قال ابن جرير الطبري : يقول الله تعالى ذكره: ولولا فضل الله عليكم أيها الناس ورحمته لكم، ما تَطَهَّر منكم من أحد أبدا من دنس ذنوبه وشركه، ولكن الله يطهرُ من يشاء من خلقه.
وعن ابن عباس، قوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) يقول: ما اهتدى منكم من الخلائق لشيء من الخير ينفع به نفسه، ولم يتق شيئا من الشرّ يدفعه عن نفسه.
و قال ابن زيد، في قوله: (وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا) قال: ما زكى: ما أسلم، وقال: كلّ شيء في القرآن من زكى أو تَزكى، فهو الإسلام.
وقوله: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يقول: والله سميع لما تقولون بأفواهكم، وتَلَقَّوْنه بألسنتكم، وغير ذلك من كلامكم، عليم بذلك كله وبغيره من أموركم، محيط به، محصيه عليكم، ليجازيكم بكل ذلك.
وقال ابن كثير : أي لولا هو يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه ويزكي النفوس من شركها، وفجورها ودنسها، وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه، لما حصل أحد لنفسه زكاة ولا خيرا ولكن الله يزكي من يشاء أي من خلقه، ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي. وقوله والله سميع أي سميع لأقوال عباده عليم بمن يستحق منهم الهدى والضلال .
أيضا التثبيت على الهداية من الله :
المؤمنين جميعا عامتهم وخاصتهم لا غنى لهم عن تثبيت الله لهم :
وأن الهداية فقط من الله بل الثبات عليها ايضا وعدم الرجوع الى الضلال من فضل الله ونعمه على خلقه حيث :قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ ) النساء
وقال (وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) الاسراء
وقال عن يوسف (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ . فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)
وفي الختام
هذا عن عباده الذين اصطفى من خلقه وافضل البشر فما بالك نحن العوام ، فالله المستعان .