الرجاء |
مقام الرجاء في الله :
الرجاء عند الله عز وجل :
قال تعالى: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 110] ،قلت : هذا عن عموم الخلق ،
وأما بشأن الخاصة منهم ، قال الله تعالى فيهم : {أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه} [الإسراء: 57].
فهؤلاء الخاصة كالأنبياء والرسل والملائكة وغيرهم يطلبون الوسائل التي بها يقتربون من الله عز وجل راجين طامعين خائفين
ابتغاء الوسيلة إليه: طلب القرب منه بالعبودية والمحبة.
حقيقة الرجاء :
" الرجاء " حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب، وهو الله والدار الآخرة، ويطيب لها السير.وقيل: هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى. والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه.
وقيل: هو الثقة بجود الرب تعالى.
قلت : معنى الرجاء في اللغة : من الأمل والتوقع ونقيض اليأس.
الفرق بين الرجاء والتمني :
والفرق بينه وبين التمني ، أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد. و " الرجاء " يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل.
فالأول كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها.
والثاني كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها، ويرجو طلوع الزرع.
ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل.
قال شاه الكرماني: علامة صحة الرجاء حسن الطاعة.
أنواع الرجاء :
والرجاء ثلاثة أنواع : نوعان محمودان ، ونوع غرور مذموم .فالأوْل: رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله ، فهو راج لثوابه .
والثاني : رجل أذنب ذنوبا ثم تاب منها ، فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه .
والثالث: رجل متماد في التفريط والخطايا ، يرجو رحمة الله بلا عمل، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب .
الرجاء يلازم الخوف :
قال أبو علي الروذباري: الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت.معارضة صاحب مدارج السالكين :
(1) فأمّا قول صاحب المنازل : "الرجاء أضعف منازل المريدين" :
قال ابن القيم : فليس كذلك، بل هو من أجلّ منازلهم، وأعلَاها وأشرفها.وعليه وعلى الحب والخوف مدار السير إلى الله.
وقد مدح الله تعالى أهله، وأثنى عليهم. فقال: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} [الأحزاب: 21] .
وفي الحديث الصحيح الإلهي عن النبي صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن ربه عز وجل –
" يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. "
و عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه. إذا ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي. وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم. وإن اقترب إلي شبرا، اقتربت إليه ذراعا. وإن اقترب إلي ذراعا، اقتربت إليه باعا. وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة " . رواه مسلم.
وقد أخبر تعالى عن خواصّ عباده الذين كان المشركون يزعمون أنهم يتقربون بهم إلى الله تعالى: أنهم كانوا راجين له، خائفين منه. فقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا} [الإسراء: 56] .
يقول تعالى: هؤلاء الذين تدعونهم من دوني: هم عبادي، يتقربون إلي بطاعتي، ويرجون رحمتي، ويخافون عذابي، فلماذا تدعونهم من دوني؟
فأثنى عليهم بأفضل أحوالهم ومقاماتهم من الحب، والخوف والرجاء.
يقال: الرجاء عبودية، وتعلق بالله من حيث اسمه المحسن البر، فذلك التعلق والتعبد بهذا الاسم والمعرفة بالله هو الذي أوجب للعبد الرجاء، من حيث يدري ومن حيث لا يدري. فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته، وغلبة رحمته غضبه.
ولولا روح الرجاء لعطلت عبودية القلب والجوارح. وهدمت صوامع، وبيع، وصلوات، ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا.
بل لولا روح الرجاء لما تحركت الجوارح بالطاعة ، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات.
وبالجملة: فالرجاء ضروري للمريد السالك، والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد. فإنه دائر بين ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو حصولها ودوامها، وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها. ولا ينفك أحد من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها. فكيف يكون الرجاء من أضعف منازله. وهذا حاله؟
(2) وقول صاحب المنازل: " لأنه معارضة من وجه، واعتراض من وجه" :
قال ابن القيم : وأما حديث المعارضة والاعتراض فباطل.فإن الراجي ليس معارضا ، ولا معترضا، بل راغبا راهبا ، مؤملا لفضل ربه ، حسن الظن به، متعلق الأمل ببره وجوده، عابدا له بأسمائه: المحسن، البر، المعطي، الحليم، الغفور، الجواد، الوهاب، الرزاق. والله سبحانه وتعالى يحب من عبده أن يرجوه. ولذلك كان عند رجاء العبد له وظنه به.
والرجاء من الأسباب التي ينال بها العبد ما يرجوه من ربه، بل هو من أقوى الأسباب. ولو تضمن معارضة واعتراضا لكان ذلك في الدعاء والمسألة أولى فكان دعاء العبد ربه وسؤاله - أن يهديه ويوفقه ويسدده، ويعينه على طاعته ويجنبه معصيته، ويغفر ذنوبه، ويدخله جنته، وينجيه من النار - معارضة واعتراضا؛ لأن الداعي راج وطالب ما يرجوه. فهو أولى حينئذ بالمعارضة والاعتراض.
الراجي محبّ :
قال ابن القيم : ولي من أبيات:لولا التعلق بالرجاء تقطعت ... نفس المحبّ تحسرا وتمزقا
وكذاك لولا برده بحرارة ال ... أكباد ذابت بالحجاب تحرقا
أيكون قط حليف حب لا يرى ... برجائه لحبيبه متعلقا؟ !
أم كلما قويت محبته له ... قوي الرجاء فزاد فيه تشوقا
وعلى حسب المحبة وقوتها يكون الرجاء.
فكل محبّ راج خائف بالضرورة فهو أرجى ما يكون لحبيبه، أحب ما يكون إليه.
وكذلك خوفه، فإنه يخاف سقوطه من عينيه، وطرد محبوبه له وإبعاده، واحتجابه عنه. فخوفه أشد خوف، ورجاؤه ذاتي للمحبة.
فإنه يرجوه قبل لقائه والوصول إليه، فإذا لقيه ووصل إليه اشتد الرجاء له، لما يحصل له به من حياة روحه، ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه، وبره وإقباله عليه، ونظره إليه بعين الرضا، وتأهيله في محبته، وغير ذلك مما لا حياة للمحب، ولا نعيم ولا فوز إلا بوصوله إليه من محبوبه. فرجاؤه أعظم رجاء، وأجله وأتمه .
فتأمل هذا الموضع حق التأمل يطلعك على أسرار عظيمة من أسرار العبودية والمحبة. فكل محبة فهي مصحوبة بالخوف والرجاء.
وعلى قدر تمكنها من قلب المحب يشتد خوفه ورجاؤه،
لكن خوف المحب لا يصحبه وحشة ، بخلاف خوف المسيء، ورجاء المحب لا يصحبه علة، بخلاف رجاء الأجير. وأين رجاء المحب من رجاء الأجير؟ ! وبينهما كما بين حاليهما.
وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك في ملكه ، فإنه إنما يرجو تصرفه في ملكه أيضا بما هو أولى وأحب الأمرين إليه. فإن الفضل أحب إليه من العدل، والعفو أحب إليه من الانتقام، والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء، والترك أحب إليه من الاستيفاء، ورحمته غلبت غضبه.
فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له المرضي له ، فلم يوجب رجاؤه خروجه عن تصرفه في ملكه ، بل اقتضى عبوديته، وحصول أحب التصرفين إليه.
وهو سبحانه وتعالى لا ينتفع باستيفاء حقه وعقوبة عبده، حتى يكون رجاؤه مبطلا لذلك ، وإنما العبد استدعى العقوبة، وأخذ الحق منه لشركه بالله وكفره به، واجتهاده في غضبه. ولغضبه موجبات وآثار ومقتضيات، والعبد مؤثر لها، ساع في تحصيلها، عامل عليها بإيثاره إياها وسعيه في أسبابها. فهو المهلك لنفسه.
وربه يحذره ويبصره ويناديه: هلم إلي أحمك وأصنك، وأنجك مما تحذر، وأؤمنك من كل ما تخاف، وهو يأبى إلا شرودا عليه ونفارا عنه، ومصالحة لعدوه، ومظاهرة له على ربه. ومتطلبا لمرضاة خلقه بمساخطه. رضا المخلوق آثر عنده من رضا خالقه. وحقه آكد عنده من حقه. وخوفه ورجاؤه وحبه في قلبه أعظم من خوفه من الله ورجائه وحبه. فلم يدع لفضل ربه وكرامته وثوابه إليه طريقا، بل سد دونه طرق مجاريها بجهده. وأعطى بيده لعدوه. فصالحه وسمع له
وأطاع. وانقاد إلى مرضاته. فجاء من الظلم بأقبحه وأشده.
فهو الذي عارض مراده به منه بمراده وهواه وشهوته. واعترض لمحابه ومراضيه بالدفع. ولم يأذن لها في الدخول عليه. فأضاع حظه وبخس حقه. وظلم نفسه. وعادى حبيبه. ووالى عدوه. وأسخط من حياته في رضاه. وأرضى من حياته في سخطه. وجاد بنفسه لعدوه. وبخل بها عن حبيبه ووليه.
والرب تبارك وتعالى ليس له ثأر عند عبده فيدركه بعقوبته ، ولا يتشفى بعقابه، ولا يزيد ذلك في ملكه مثقال ذرة من ملكه. كيف، والرحمة أوسع من العقوبة وأسبق من الغضب وأغلب له؟ وهو قد كتب على نفسه الرحمة.
فرجاء العبد له لا ينقص شيئا من حكمته ، ولا ينقص ذرة من ملكه ، ولا يخرجه عن كمال تصرفه، ولا يوجب خلاف كماله ، ولا تعطيل أوصافه وأسمائه.
ولولا أن العبد هو الذي سد على نفسه طرق الخيرات، وأغلق دونها أبواب الرحمة بسوء اختياره لنفسه لكان ربه له فوق رجائه وفوق أمله.
↚
وأما رضاه بمراده منه وإن عذبه فهذا هو الرعونة كل الرعونة.
فإن مراده سبحانه نوعان: مراد يحبه ويرضاه. ويمدح فاعله ويواليه. فموافقته في هذا المراد هي عين محبته، وإرادة خلافه رعونة ومعارضة واعتراض.
ومراد يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ويعاديه. فموافقته في هذا المراد عين مشاقته ومعاداته ومخالفته والتعرض لمقته وسخطه.
فهذا الموضع موضع فرقان. فالموافقة كل الموافقة معارضة هذا المراد، واعتراضه بالدفع والرد بالمراد الآخر.
فالعبودية الحق معارضة مراده بمراده، ومزاحمة أحكامه بأحكامه.
فاستسلامه لهذا المراد المكروه المسخوط، وما يوجبه ويقتضيه عين الرعونة. والخروج عن العبودية. وهو عين الدعوى الكاذبة؛ إذ لو كان مصدر ذلك الاستسلام والموافقة، وترك الاعتراض والمعارضة، لكان ذلك مخصوصا بمحابه ومراضيه، وأوامره التي الاستسلام لها والموافقة فيها، وترك معارضتها، والاعتراض عليها - هو عين المحبة والموالاة.
وأما تعلق الرجاء بمراده دون مراد سيده فهو إنما علقه بمراده المحبوب له، هاربا من مراده المسخوط المكروه له. وعلى تقدير أن يكون محبوبا له - إذا كان انتقاما - فالعفو والفضل أحب إليه منه. فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه.
وأما كون الرجاء اعتراضا على ما سبق به الحكم: فليس كذلك.
بل تعلقا بما سبق به الحكم. فإنه إنما يرجو فضلا وإحسانا، ورحمة سبق بها القضاء والقدر، وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها. فليس الرجاء اعتراضا على القدر، ولا معارضة للقدر. بل طلبا لما سبق به القدر.
وأما اعتراضه إذا لم يحصل له مرجوه فهذا نقص في العبودية، وجهل بحق الربوبية. فإن الراجي والداعي يرجو ويدعو فضلا لا يستحقه، ولا يستوجبه بمعاوضة. فإن أعطيه فمحض المنة والصدقة عليه، وإن منعه فلم يمنع حقا هو له. فاعتراضه رعونة وجهالة. ولا يلزم من فوات المرجو، أو عدم حصول المدعو به في حق العبد الصادق، معارضة ولا اعتراض.
فيقال: بل لفوائد كثيرة أخر مشاهدة :
- منها: إظهار العبودية والفاقة، والحاجة إلى ما يرجوه من ربه، ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه، ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الحق الجواد، أجود من سئل، وأوسع من أعطى ، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل.
-وفي الحديث «من لم يسأل الله يغضب عليه،» والسائل راج وطالب، فمن لم يرج الله يغضب عليه.
فهذه فائدة أخرى من فوائد الرجاء. وهي التخلص به من غضب الله.
-ومنها أن الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله. ويطيب له المسير. ويحثه عليه. ويبعثه على ملازمته. فلولا الرجاء لما سار أحد. فإن الخوف وحده لا يحرك العبد. وإنما يحركه الحب. ويزعجه الخوف. ويحدوه الرجاء.
- ومنها أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة، ويلقيه في دهليزها. فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبا لله تعالى، وشكرا له، ورضا به وعنه.
- ومنها أنه يبعثه على أعلى المقامات. وهو مقام الشكر، الذي هو خلاصة العبودية. فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره.
- ومنها أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها، والتعلق بها.
فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى ، متعبد بها، داع بها. قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180] فلا ينبغي أن يعطل دعاؤه بأسمائه الحسنى التي هي أعظم ما يدعو بها الداعي.
فالقدح في مقام الرجاء تعطيل لعبودية هذه الأسماء، وتعطيل للدعاء بها.
ومنها: أن المحبة لا تنفك عن الرجاء - كما تقدم - فكل واحد منهما يمد الآخر ويقويه.
- ومنها: أن الخوف مستلزم للرجاء. والرجاء مستلزم للخوف. فكل راج خائف. وكل خائف راج. ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف. قال الله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقارا} [نوح: 13] قال كثير من المفسرين: المعنى ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ قالوا: والرجاء بمعنى الخوف.
والتحقيق أنه ملازم له. فكل راج خائف من فوات مرجوه. والخوف بلا رجاء يأس وقنوط. وقال تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية: 14] قالوا في تفسيرها: لا يخافون وقائع الله بهم، كوقائعه بمن قبلهم من الأمم.
ومنها: أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه، فأعطاه ما رجاه، كان ذلك ألطف موقعا، وأحلى عند العبد، وأبلغ من حصول ما لم يرجه.
وهذا أحد الأسباب والحكم في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار، فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوهم واندفاع مخوفهم.
- ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته من الذل والانكسار، والتوكل والاستعانة، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، والرضا والإنابة وغيرها. ولهذا قدر عليه الذنب وابتلاه به، لتكمل مراتب عبوديته بالتوبة التي هي من أحب عبوديات عبده إليه، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف.
-ومنها: أن في الرجاء - من الانتظار والترقب والتوقع لفضل الله - ما يوجب تعلق القلب بذكره ودوام الالتفات إليه بملاحظة أسمائه وصفاته، وتنقل القلب في رياضها الأنيقة، وأخذه بنصيبه من كل اسم وصفة - كما تقدم بيانه - فإذا فنى عن ذلك وعاب عنه، فاته حظه ونصيبه من معاني هذه الأسماء والصفات.
إلى فوائد أخرى كثيرة. يطالعها من أحسن تأمله وتفكره في استخراجها.
وليس في الرجاء ولا في الدعاء معارضة لتصرف المالك في ملكه ، فإنه إنما يرجو تصرفه في ملكه أيضا بما هو أولى وأحب الأمرين إليه. فإن الفضل أحب إليه من العدل، والعفو أحب إليه من الانتقام، والمسامحة أحب إليه من الاستقصاء، والترك أحب إليه من الاستيفاء، ورحمته غلبت غضبه.
فالراجي علق رجاءه بتصرفه المحبوب له المرضي له ، فلم يوجب رجاؤه خروجه عن تصرفه في ملكه ، بل اقتضى عبوديته، وحصول أحب التصرفين إليه.
وهو سبحانه وتعالى لا ينتفع باستيفاء حقه وعقوبة عبده، حتى يكون رجاؤه مبطلا لذلك ، وإنما العبد استدعى العقوبة، وأخذ الحق منه لشركه بالله وكفره به، واجتهاده في غضبه. ولغضبه موجبات وآثار ومقتضيات، والعبد مؤثر لها، ساع في تحصيلها، عامل عليها بإيثاره إياها وسعيه في أسبابها. فهو المهلك لنفسه.
وربه يحذره ويبصره ويناديه: هلم إلي أحمك وأصنك، وأنجك مما تحذر، وأؤمنك من كل ما تخاف، وهو يأبى إلا شرودا عليه ونفارا عنه، ومصالحة لعدوه، ومظاهرة له على ربه. ومتطلبا لمرضاة خلقه بمساخطه. رضا المخلوق آثر عنده من رضا خالقه. وحقه آكد عنده من حقه. وخوفه ورجاؤه وحبه في قلبه أعظم من خوفه من الله ورجائه وحبه. فلم يدع لفضل ربه وكرامته وثوابه إليه طريقا، بل سد دونه طرق مجاريها بجهده. وأعطى بيده لعدوه. فصالحه وسمع له
وأطاع. وانقاد إلى مرضاته. فجاء من الظلم بأقبحه وأشده.
فهو الذي عارض مراده به منه بمراده وهواه وشهوته. واعترض لمحابه ومراضيه بالدفع. ولم يأذن لها في الدخول عليه. فأضاع حظه وبخس حقه. وظلم نفسه. وعادى حبيبه. ووالى عدوه. وأسخط من حياته في رضاه. وأرضى من حياته في سخطه. وجاد بنفسه لعدوه. وبخل بها عن حبيبه ووليه.
والرب تبارك وتعالى ليس له ثأر عند عبده فيدركه بعقوبته ، ولا يتشفى بعقابه، ولا يزيد ذلك في ملكه مثقال ذرة من ملكه. كيف، والرحمة أوسع من العقوبة وأسبق من الغضب وأغلب له؟ وهو قد كتب على نفسه الرحمة.
فرجاء العبد له لا ينقص شيئا من حكمته ، ولا ينقص ذرة من ملكه ، ولا يخرجه عن كمال تصرفه، ولا يوجب خلاف كماله ، ولا تعطيل أوصافه وأسمائه.
ولولا أن العبد هو الذي سد على نفسه طرق الخيرات، وأغلق دونها أبواب الرحمة بسوء اختياره لنفسه لكان ربه له فوق رجائه وفوق أمله.
↚
(3) الرجاء لا يناقض الاستسلام :
وأما استسلام العبد لربه، واستسلامه بانطراحه بين يديه، ورضاه بمواقع حكمه فيه فما ذاك إلا رجاء منه أن يرحمه، ويقيله عثرته ويعفو عنه، ويقبل حسناته مع عيوب أعماله وآفاتها. ويتجاوز عن سيئاته. فقوة رجائه أوجبت له هذا الاستسلام والانقياد، والانطراح بالباب. ولا يتصور هذا بدون الرجاء ألبتة. فالرجاء حياة الطلب. والإرادة روحها.وأما رضاه بمراده منه وإن عذبه فهذا هو الرعونة كل الرعونة.
فإن مراده سبحانه نوعان: مراد يحبه ويرضاه. ويمدح فاعله ويواليه. فموافقته في هذا المراد هي عين محبته، وإرادة خلافه رعونة ومعارضة واعتراض.
ومراد يبغضه ويكرهه ويمقت فاعله ويعاديه. فموافقته في هذا المراد عين مشاقته ومعاداته ومخالفته والتعرض لمقته وسخطه.
فهذا الموضع موضع فرقان. فالموافقة كل الموافقة معارضة هذا المراد، واعتراضه بالدفع والرد بالمراد الآخر.
فالعبودية الحق معارضة مراده بمراده، ومزاحمة أحكامه بأحكامه.
فاستسلامه لهذا المراد المكروه المسخوط، وما يوجبه ويقتضيه عين الرعونة. والخروج عن العبودية. وهو عين الدعوى الكاذبة؛ إذ لو كان مصدر ذلك الاستسلام والموافقة، وترك الاعتراض والمعارضة، لكان ذلك مخصوصا بمحابه ومراضيه، وأوامره التي الاستسلام لها والموافقة فيها، وترك معارضتها، والاعتراض عليها - هو عين المحبة والموالاة.
وأما تعلق الرجاء بمراده دون مراد سيده فهو إنما علقه بمراده المحبوب له، هاربا من مراده المسخوط المكروه له. وعلى تقدير أن يكون محبوبا له - إذا كان انتقاما - فالعفو والفضل أحب إليه منه. فهو إنما علق رجاءه بأحب المرادين إليه.
وأما كون الرجاء اعتراضا على ما سبق به الحكم: فليس كذلك.
بل تعلقا بما سبق به الحكم. فإنه إنما يرجو فضلا وإحسانا، ورحمة سبق بها القضاء والقدر، وجعل الرجاء أحد أسباب حصولها. فليس الرجاء اعتراضا على القدر، ولا معارضة للقدر. بل طلبا لما سبق به القدر.
وأما اعتراضه إذا لم يحصل له مرجوه فهذا نقص في العبودية، وجهل بحق الربوبية. فإن الراجي والداعي يرجو ويدعو فضلا لا يستحقه، ولا يستوجبه بمعاوضة. فإن أعطيه فمحض المنة والصدقة عليه، وإن منعه فلم يمنع حقا هو له. فاعتراضه رعونة وجهالة. ولا يلزم من فوات المرجو، أو عدم حصول المدعو به في حق العبد الصادق، معارضة ولا اعتراض.
(4) قوله: وإنما نطق به التنزيل: لفائدة، وهي كونه يبرد حرارة الخوف :
- يعني :الرجاء -فيقال: بل لفوائد كثيرة أخر مشاهدة :
- منها: إظهار العبودية والفاقة، والحاجة إلى ما يرجوه من ربه، ويستشرفه من إحسانه، وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه، ويسألوه من فضله؛ لأنه الملك الحق الجواد، أجود من سئل، وأوسع من أعطى ، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل.
-وفي الحديث «من لم يسأل الله يغضب عليه،» والسائل راج وطالب، فمن لم يرج الله يغضب عليه.
فهذه فائدة أخرى من فوائد الرجاء. وهي التخلص به من غضب الله.
-ومنها أن الرجاء حاد يحدو به في سيره إلى الله. ويطيب له المسير. ويحثه عليه. ويبعثه على ملازمته. فلولا الرجاء لما سار أحد. فإن الخوف وحده لا يحرك العبد. وإنما يحركه الحب. ويزعجه الخوف. ويحدوه الرجاء.
- ومنها أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة، ويلقيه في دهليزها. فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبا لله تعالى، وشكرا له، ورضا به وعنه.
- ومنها أنه يبعثه على أعلى المقامات. وهو مقام الشكر، الذي هو خلاصة العبودية. فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره.
- ومنها أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها، والتعلق بها.
فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى ، متعبد بها، داع بها. قال الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180] فلا ينبغي أن يعطل دعاؤه بأسمائه الحسنى التي هي أعظم ما يدعو بها الداعي.
فالقدح في مقام الرجاء تعطيل لعبودية هذه الأسماء، وتعطيل للدعاء بها.
ومنها: أن المحبة لا تنفك عن الرجاء - كما تقدم - فكل واحد منهما يمد الآخر ويقويه.
- ومنها: أن الخوف مستلزم للرجاء. والرجاء مستلزم للخوف. فكل راج خائف. وكل خائف راج. ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف. قال الله تعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقارا} [نوح: 13] قال كثير من المفسرين: المعنى ما لكم لا تخافون لله عظمة؟ قالوا: والرجاء بمعنى الخوف.
والتحقيق أنه ملازم له. فكل راج خائف من فوات مرجوه. والخوف بلا رجاء يأس وقنوط. وقال تعالى: {قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله} [الجاثية: 14] قالوا في تفسيرها: لا يخافون وقائع الله بهم، كوقائعه بمن قبلهم من الأمم.
ومنها: أن العبد إذا تعلق قلبه برجاء ربه، فأعطاه ما رجاه، كان ذلك ألطف موقعا، وأحلى عند العبد، وأبلغ من حصول ما لم يرجه.
وهذا أحد الأسباب والحكم في جعل المؤمنين بين الرجاء والخوف في هذه الدار، فعلى قدر رجائهم وخوفهم يكون فرحهم في القيامة بحصول مرجوهم واندفاع مخوفهم.
- ومنها: أن الله سبحانه وتعالى يريد من عبده تكميل مراتب عبوديته من الذل والانكسار، والتوكل والاستعانة، والخوف والرجاء، والصبر والشكر، والرضا والإنابة وغيرها. ولهذا قدر عليه الذنب وابتلاه به، لتكمل مراتب عبوديته بالتوبة التي هي من أحب عبوديات عبده إليه، فكذلك تكميلها بالرجاء والخوف.
-ومنها: أن في الرجاء - من الانتظار والترقب والتوقع لفضل الله - ما يوجب تعلق القلب بذكره ودوام الالتفات إليه بملاحظة أسمائه وصفاته، وتنقل القلب في رياضها الأنيقة، وأخذه بنصيبه من كل اسم وصفة - كما تقدم بيانه - فإذا فنى عن ذلك وعاب عنه، فاته حظه ونصيبه من معاني هذه الأسماء والصفات.
إلى فوائد أخرى كثيرة. يطالعها من أحسن تأمله وتفكره في استخراجها.
درجات الرجاء :
الدرجة الأولى رجاء يبعث العامل على الاجتهاد :
قال صاحب " المنازل ": الرجاء على ثلاث درجات: الدرجة الأولى: رجاء يبعث العامل على الاجتهاد ، ويولد التلذذ بالخدمة، ويوقظ الطباع للسماحة بترك المناهي.أي ينشطه لبذل جهده لما يرجوه من ثواب ربه. فإن من عرف قدر مطلوبه هان عليه ما يبذل فيه.
وأما توليده للتلذذ بالخدمة فإنه كلما طالع قلبه ثمرتها وحسن عاقبتها التذ بها. وهذا كحال من يرجو الأرباح العظيمة في سفره، ويقاسي مشاق السفر لأجلها. فكلما صورها لقلبه هانت عليه تلك المشاق والتذ بها. وكذلك المحب الصادق الساعي في مراضي محبوبه الشاقة عليه، كلما تأمل ثمرة رضاه عنه وقبوله سعيه، وقربه منه تلذذ بتلك المساعي، وكلما قوي علم العبد بإفضاء ذلك السبب إلى المسبب المطلوب، وقوي علمه بقدر المسبب وقرب السبب منه ازداد التذاذا بتعاطيه.
وأما إيقاظ الطباع للسماحة بترك المناهي: فإن الطباع لها معلوم ورسوم تتقاضاها من العبد. ولا تسمح له بتركها إلا بعوض هو أحب إليها من معلومها ورسومها، وأجل عندها منه وأنفع لها. فإذا قوي تعلق الرجاء بهذا العوض الأفضل الأشرف سمحت الطباع بترك تلك الرسوم وذلك المعلوم. فإن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب هو أحب إليها منه. أو حذرا من مخوف هو أعظم مفسدة لها من حصول مصلحتها بذلك المحبوب. وفي الحقيقة ففرارها من ذلك المخوف إيثار لضده المحبوب لها. فما تركت محبوبا إلا لما هو أحب إليها منه. فإن من قدم إليه طعام لذيذ يضره ويوجب له السقم. فإنما يتركه محبة للعافية التي هي أحب إليه من ذلك الطعام.
الدرجة الثانية :رجاء أرباب الرياضات أن يبلغوا موقفا تصفو فيه هممهم :
قال: الدرجة الثانية رجاء أرباب الرياضات أن يبلغوا موقفا تصفو فيه هممهم، برفض الملذوذات، ولزوم شروط العلم، واستقصاء حدود الحمية.أرباب الرياضات: هم المجاهدون لأنفسهم بترك مألوفاتها، والاستبدال بها مألوفات هي خير منها وأكمل، فرجاؤهم أن يبلغوا مقصودهم بصفاء الوقت، والهمة من تعلقها بالملذوذات. وتجريد الهمم عن الالتفات إليها. وبلزوم شروط العلم. وهو الوقوف عند حدود الأحكام الدينية. فإن رجاءهم متعلق بحصول ذلك لهم، واستقصاء حدود الحمية.
و " الحمية " العصمة والامتناع من تناول ما يخشى ضرره آجلا أو عاجلا. وله حدود متى خرج العبد عنها انتقض عليه مطلوبه، والوقوف على حدودها بلزوم شروط العلم.
والاستقصاء في تلك الحدود بأمرين: بذل الجهد في معرفتها علما، وأخذ النفس
بالوقوف عندها طلبا وقصدا.
الدرجة الثالثة : رجاء أرباب القلوب :
قال: الدرجة الثالثة: رجاء أرباب القلوب. وهو رجاء لقاء الخالق الباعث على الاشتياق المبغض المنغص للعيش المزهد في الخلق.وهذا الرجاء هو محض الإيمان وزبدته، وإليه شخصت أبصار المشتاقين. ولذلك سلاهم الله تعالى بإتيان أجل لقائه. وضرب لهم أجلا يسكن نفوسهم ويطمئنها.
والاشتياق هو سفر القلب في طلب محبوبه.
واختلف المحبون: هل يبقى عند لقاء المحبوب أم يزول؟ على قولين.
فقالت طائفة: يزول؛ لأنه إنما يكون مع الغيبة. وهو سفر القلب إلى المحبوب. فإذا انتهى السفر، واجتمع بمحبوبه، وضع عصا الاشتياق عن عاتقه. وصار الاشتياق أنسا به ولذة بقربه.
وقالت طائفة: بل يزيد ولا يزول باللقاء.
قالوا: لأن الحب يقوى بمشاهدة جمال المحبوب أضعاف ما كان حال غيبته. وإنما يواري سلطانه فناءه ودهشته بمعاينة محبوبه، حتى إذا توارى عنه ظهر سلطان شوقه إليه، ولهذا قيل:
وأعظم ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الخيام من الخيام
وقوله " المنغص للعيش " فلا ريب أن عيش المشتاق منغص حتى يلقى محبوبه. فهناك تقر عينه. ويزول عن عيشه تنغيصه. وكذلك يزهد في الخلق غاية التزهيد؛ لأن صاحبه طالب للأنس بالله والقرب منه. فهو أزهد شيء في الخلق، إلا من أعانه على هذا المطلوب منهم وأوصله إليه. فهو أحب خلق الله إليه. ولا يأنس من الخلق بغيره. ولا يسكن إلى سواه. فعليك بطلب هذا الرفيق جهدك. فإن لم تظفر به فاتخذ الله صاحبا. ودع الناس كلهم جانبا.