الدرر في اختصار المغازي والسير

كتاب الدرر   

 


مختارات من المغازي والسير :

ابن عبد البر :

المؤلف (368 - 463 هـ : 978 - 1071 م)
أبو عمر يوسف بن عبد الله بن محمد بن عبد البر النمري القرطبي المالكي : 
من كبار حفاظ الحديث، مؤرخ، أديب، حافظ المغرب.
ولد بقرطبة. ورحل رحلات طويلة في غربي الاندلس وشرقيها. وولي قضاء لشبونة وشنترين. وتوفي بشاطبة.
من كتبه :
" الدرر في اختصار المغازي والسير " 
" العقل والعقلاء "
"الاستيعاب في معرفة الأصحاب " 
"جامع بيان العلم وفضله "
" التمهيد لما في الموطأ من المعاني والاسانيد"
" الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار " ، وهو اختصار " التمهيد " 

المحتويات :

*خبر مبعثه صلى الله عليه وسلم
*دعاء الرسول قومه الى الاسلام وأذاهم له
*أول الناس ايمانا بالنبي
*المجاهرون بأذى النبي والمؤمنين
*المغازي :  الأبواء وبعث حمزة وسعد وعبد الله بن جحش ،والبواط والعشيرة وبدر الأولى
*رابط تصفح الكتاب كاملا 
*غزوة أحد
*غزوة حمراء الأسد 
*غزوة خيبر
*تحميل كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير 

باب من خبر مبعثه صلى الله عليه وسلم 

1.حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثني إسرائيل عن سماك بن حرب عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
 أتى نفر من قريش إمرأة كاهنة، قالوا: أخبرينا بأقربنا شبها بصاحب هذا المقام،
 قالت: إن جررتم على السهلة عباءة ومشيتم عليها أنبأتكم بأقربكم منه شبها، فجروا عليها عباءة، ثم مشوا عليها، فرأت أثر قدم محمد صلى الله عليه وسلم، فقالت: هذا والله أقربكم شبها،
 قال ابن عباس رضي الله عنه: فمكثوا بعد ذلك عشرين سنة، ثم بعث محمد صلى الله عليه وسلم.

2.حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا سليمان بن معاذ الضبي، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: 
"إن بمكة لحجرا يسلم علي ليالي بعثت، إني لأعرفه الآن".

3.حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر بن داسة، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا إبراهيم بن الحسن الخثعمي، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع جابر بن عبد الله يقول:
لما بنيت الكعبة ذهب عباس والنبي صلى الله عليه وسلم ينقلان الحجارة، فقال عباس للنبي صلى الله عليه وسلم:
 اجعل إزارك على رقبتك يقيك  من الحجارة، ففعل، فخرّ إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء، ثم قام وقال: "إزاري إزاري"، فشده عليه.
وفي حديث عكرمة عن ابن عباس في هذا الخبر، قال:
خرّ محمد، فانبطح. 
قال العباس: فجئت أسعى إليه، وألقيت عني حجري.
 قال: وهو ينظر إلى السماء،
قلت: ما شأنك؟ 
قال: فقام وأخذ إزاره، وقال: "نهيت أن أمشي عريانا".
قال ابن عباس: قال أبي: فإني أكتمها الناس، مخافة أن يقولوا مجنون.

4.وفي حديث عائشة رضي الله عنها من رواية مالك، رحمه الله، وغيره:
أن الوحي كان يأتيه أحيانا مثل صلصلة الجرس، وأحيانا يكلمه الملك، وأحيانا يشتد عليه، فيتفصد جبينه في اليوم البارد عرقا.
وقال عروة بن الزبير: كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها.
5.وفي حديث عمر رضي الله عنه، قال: كان ينزل عليه الوحي، فيسمع له دوي كدوي النحل.

6.حدثنا عبد الله، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا محمد بن داود بن سفيان، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: أول ما بديء به رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من الوحي الرؤيا الصادقة، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء، فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة، فتزوده
لمثلها، حتى فجأه الحق، وهو في غار حراء فجاء الملك فقال: اقرأ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت: "ما أنا بقارىء، فأخذني، فغطني  حتى بلغ مني  الجهد، ثم أرسلني، فقال اقرأ، فقلت: ما أنا بقاريء، فأخذني، فغطى الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقاريء، فأخذني، فغطني الثالثة، حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} حتى بلغ {علم الإنسان ما لم يعلم} .
 قال: فرجع بها ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة فقال: زملوني ، فزملوه، حتى ذهب عنه  الروع، فقال يا خديجة: ما لي؟ وأخبرها الخبر. وقال: قد  خشيت على نفسي"، فقالت له: كلا، أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدا  إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل وتكسب المعدوم، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق،
ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي، وهو ابن عم أخي أبيها، وكان امرءا تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخا كبيرا  قد عمي فقالت له خديجة: أي ابن عمي اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة بن نوفل: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى، يا ليتني أكون فيها حيا حين يخرجك قومك، 
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم؟
فقال ورقة بن نوفل: نعم إنه لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي وأوذي وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. ثم لم يلبت ورقة أن توفي.
وفتر الوحي فترة، حتى حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا حزنا شديدا، غدا منه مرارا كي يتردى من رؤوس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة كي يلقي بنفسه منها تبدى له جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه، فإذا طالت عليه فترة الوحي غدا لمثل ذلك، فإذا أوفى ذروة تبدى له جبريل عليه السلام، فقال مثل ذلك.

7.حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال:
كان لكل قبيل من الجن مقعد من السماء يستمعون فيه، فلما رموا بالشهب، وحيل بينهم وبين خبر السماء قالوا: ما هذا إلا لشيء حدث في الأرض، وشكوا ذلك إلى إبليس، فقال: ما هذا إلا لشيء حدث في الأرض، فائتوني من تربة كل أرض، فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، يبتغون علم ذلك، فأتوه من تربة كل أرض، فكان يشمها ويرمي بها، حتى أتاه الذين توجهوا إلى تهامة بتربة من تربة مكة، فشمها، فقال: من ها هنا يحدث الحدث. فنظر، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث، فانطلقوا فوجدوا رسول الله وطائفة معه من أصحابه بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بهم صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بيننا وبين خبر السماء، فولوا إلى قومهم منذرين، فقالوا: يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد. وذكر تمام الخبر.

8.قال أبو داود: وحدثنا وهب بن بقية، عن خالد، قال أبو داود: حدثنا محمد بن العلاء عن ابن إدريس، كلاهما عن حصين، عن عامر الشعبي، قال:
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم رجمت الشياطين بنجوم لم تكن ترجم بها من قبل، فأتوا عبد يا ليل ابن عمرو الثقفي فقالوا: إن الناس قد فزعوا وأعتقوا رقيقهم وسيبوا أنعامهم لما رأوا في النجوم، فقال لهم: وكان رجلا أعمى: لا تعجلوا وانظروا، فإن كانت النجوم التي تعرف فهو عند فناء الناس، وإن كانت لا تعرف فهو من حدث، فنظروا،
فإذا هي نجوم لا تعرف. فقالوا: هذا أمر حدث، فلم يلبثوا حتى سمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.

9.أخبرنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعت، قال: أخبرنا أبو عاصم خسيس بن أصرم، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، قال: أخبرني أبو سلمة، عن جابر، قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، قال: "بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا  على كرسي بين السماء والأرض فجثثت  منه رعبا، فرجعت، فقلت: زملوني دثروني" فأنزل الله عز جل: {يا أيها المدثر} إلى قوله: {والرجز فاهجر} وهي الأوثان.
وقال شعبة عن مغيرة، عن إبراهيم النخعي: نزلت عليه {يا أيها المدثر} وهو في قطيفة.
وقال شيبان، عن الأعمش، عن إبراهيم: أول سورة أنزلت عليه: {اقرأ باسم ربك الذي خلق} .
وهو قول عائشة وعبيد بن عمير ومحمد بن عباد بن جعفر والحسن البصري وعكرمة ومجاهد والزهري.
باب دعاء الرسول الناس للإسلام وما لقى من الأذى 👈

باب  دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم قومه وغيرهم إلى دين الله والدخول في الإسلام، 

[دعوة الرسول قومه وغيرهم إلى الإسلام] .
قال الله عز وجل: {قم فأنذر} وقال عز وجل: {فاصدع بما تؤمر} .
أخبرنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، قال: حدثني محمد بن كثير الصنعاني، عن معمر، عن الزهري، عن عروة عن عائشة قالت:
 ثم دعا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى الإسلام سرا وجهرا،  وهجر الأوثان، فاستجاب له من شاء من الأحداث والكهول وضعفة الناس، حتى كثر من آمن به وصدقه، وكفار قريش غير منكرين لما يقول، يقولون إذا مر عليهم: إن غلام بني هاشم هذا ويشيرون إليه ليكلم، زعموا، من السماء.
فكانوا على ذلك حتى عاب آلهتهم التي كانوا يعبدون، وذكر هلاك آبائهم الذين ماتوا كفارا، فغضبوا لذلك وعادوه. 
فلما ظهر الإسلام وتحدث به المؤمنون أقبلوا عليهم يعذبونهم ويؤذونهم، يريدون بذلك فتنتهم عن دينهم، 
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تفرقوا في الأرض، 
فقالوا: أين نذهب يا رسول الله؟
فقال: ها هنا، وأشار بيده نحو أرض الحبشة.
 فهاجر إليها ناس ذوو عدد، منهم من هاجر بنفسه، ومنهم من هاجر بأهله.

أخبرنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قال ابن المثنى: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، وقال ابن بشار: أخبرنا عبد الوهاب، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن محمد بن المنكدر، عن ربيعة بن عباد الدؤلي، قال: 
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز يطوف بالناس، ويتبعهم في منازلهم، يدعوهم إلى الله، يقول: إن الله يأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، ورجل خلفه يقول: يا أيها الناس هذا ينهاكم أن تدينوا دين آبائكم، فلا يصدنكم عن دينكم ودين آبائكم
 فقلت: من هذا؟ قالوا: عمه أبو لهب.

[أول الناس إيمانا بالله ورسوله] 

فكان أول من آمن بالله ورسوله فيما أتت به الآثار وذكره أهل السير والأخبار منهم ابن شهاب وغيره، وهو قول موسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمر الواقدي وسعيد بن يحيى بن سعيد الأموي وغيرهم: 
خديجة بنت خويلد زوجته صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، واختلف في الأول منهما،
فروي عن حسان بن ثابت وإبراهيم النخعي وطائفة: أبو بكر أول من أسلم. والأكثر منهم يقولون عليّ. 
وقد ذكرنا القائلين بذلك والآثار الواردة في بابه من كتاب الصحابة. وروي عن ابن عباس القولان جميعا.
 واختلفوا في سن عليّ يومئذ، فقيل: ثماني سنين، وقيل: عشر سنين، وقيل: اثنتا عشرة سنة، وقيل: خمس عشرة سنة. قاله الحسن البصري وغيره. 
وقال ابن إسحاق: كان أول ذكر ممن آمن بالله وصدق رسول الله فيما جاء به من عند الله علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهو ابن عشر سنين يومئذ.
قال، أي ابن إسحاق: ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب الكلبي قلت: شراحيل -قاله ابن هشام- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة.

قال أبو عمر: ثم أسلم خالد بن سعيد بن العاصي، وأسلمت معه امرأته: أمينة بن خلف بن أسعد الخزاعية، 
وبلال وعمار بن ياسر وأمه سمية، وصهيب بن سنان النمري المعروف بالرومي، وعمرو بن عبسة السلمي ورجع إلى بلاد قومه، وعمرو بن سعيد بن العاصي.
ثم أسلم بدعاء أبي بكر الصديق عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وعبد الرحمن بن عوف.
ثم أسلم أبو عبيدة الجراح، وأبو سلمة بن عبد الأسد، وعثمان بن مظعون، ثم أخواه: قدامة وعبد الله، وابنه: السائب بن عثمان بن مظعون، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وأسماء بنت أبي بكر الصديق، وعائشة بنت أبي بكر الصديق، وهي صغيرة،
وفاطمة بنت الخطاب أخت عمر بن الخطاب زوج سعيد بن زيد، وعمير بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، وأخوه عتبة بن مسعود، وسليط بن عمرو العامري، وعياش بن أبي ربيعة المخزومي، وامرأته أسماء بنت سلامة بن مخربة التميمية، ومسعود بن ربيعة بن عمرو القاري من بني الهون بن خزيمة وهم القارة، وخنيس بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي، وعبد الله جحش الأسدي.

تتمة السابقين إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم
وحمزة بن عبد المطلب، وجعفر بن أبي طالب، وامرأته أسماء بنت عميس، وعامر بن ربيعة العنزي من عنز بن وائل -قال ابن هشام: عنز بن وائل من ربيعة- حليف الخطاب بن نفيل وأبو أحمد بن جحش الأعمى وحاطب بن الحارث بن معمر الجمحي وامرأته بنت المجلل العامرية وحطاب بن الحارث أخوه وامرأته فكهية بنت يسار وأخوهما معمر بن الحارث بن معمر الجمحي والمطلب بن أزهر بن عبد عوف الزهري وامرأته رملة بنت أبي عوف السهمية، والنحام واسمه نعيم بن عبد الله العدوي وعامر بن فهيرة أزدي من الأزد أمه فهيرة مولاة أبي بكر الصديق وحاطب بن عمرو بن شمس بن عبد ود العامري أخو سليط بن عمرو وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة واسمه مهشم بن عتبة فيما قال ابن هشام وواقد بن عبد الله بن عبد مناف [بن عرين]  -فيما قال ابن هشام- ابن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة الحنظلي التميمي حليف بني عدي بن كعب، وأبو ذر جندب بن جنادة ولكنه رجع إلى بلاد قومه فتأخرت هجرته، وإياس وخالد وعاقل وعامر بنو البكير بن عبد يا ليل بن ناشب من بني سعد بن ليث حلفاء بني عدي، والأرقم بن أبي الأرقم واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أبي جندب واسم أبي جندب أسد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.

وأسلم حمزة بن عبد المطلب، وكان سبب إسلامه أن أبا جهل شتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتناوله وحمزة غائب في صيد، وكان راميا كثير الصيد،
 فلما انصرف قالت له امرأته: يا أبا عمارة: ماذا لقي ابن أخيك من أبي جهل؟ شتمه وتناوله وفعل وفعل،
 قال: فهل رآه أحد؟ قالت: نعم أهل ذلك المجلس عند الصفا.
 فأتاهم وهم جلوس وأبو جهل فيهم، فجمع على قوسه يديه، فضرب بها رأس أبي جهل، فدق سيتها.
ثم قال: خذها بالقوس، ثم أخرى بالسيف، أشهد أنه رسول الله وأن ما جاء به حق من عند الله. وسمي من يومئذ أسد الله.

ثم عمر بن الخطاب، أسلم بعد أربعين رجلا واثنتي عشرة امرأة، فعز الإسلام وظهر بإسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما .

ذكر بعض ما لقي   من الأذى وصبره في ذلك على البلوى صلى الله عليه وسلم

ولما أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء إلى الله تعالى نابذته قريش، ورموه بالبهتان، وجاهروا في عداوته، وأظهروا البغضاء له، وآذوه. وآذو من اتبعه، بكل ما أمكنهم من الأذى.
فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاره عمه أبو طالب، ومنع منه. وكذلك أجار أبا بكر قومه، ثم أسلموه فأجاره ابن الدغنة.
 وأجار العاصي بن وائل عمر بن الخطاب.

أخبرنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى، قالا: حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا زائدة بن قدامة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: 
كان أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وعمار، وأمه سمية، وصهيب، وبلال، والمقداد. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه،
 وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس، فما منهم إلا من واتاهم فيما أرادوا وأوهمهم بذلك إلا بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله عز وجل، وهان على قومه فأخذوه، وأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد، أحد.
وعن مجاهد مثله سواء، وزاد في قصة بلال: وجعلوا في عنقه حبلا، ودفعوه إلى الصبيان يلعبون به، حتى أثر في عنقه، ثم ملوه فتركوه. قال ابن عبد البر: وقد ذكرنا خبره بأكثر من هذا في بابه من كتاب الصحابة.
ولم يذكر ابن مسعود ولا مجاهد في هذا الخبر خديجة ولا عليا، وهما أول من أسلم عند أكثر أهل العلم، لأنهما كانا في بيت رسول الله، ومن كان في بيته كان في جوار عمه. ومع ذلك فإنه لم يظهر إلى قريش منهما ذلك، فلم يؤذيا.
 وهؤلاء السبعة ظهر منهم ذلك، فلقوا الأذى الشديد من قومهم فقصد بهذا الحديث إلى الخبر عنهم.

حدثنا عبد الله، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا سليمان، قال: حدثنا عمرو بن عثمان ومحمود بن خالد وحسين بن عبد الرحمن، قالوا: حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن عروة بن الزبير، قال:
سألت عبد الله بن عمرو بن العاص، قلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله، 
قال: نعم، بينما رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخنقه به خنقا شديدا. قال: فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبيه، ودفعه عن رسول الله، وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم.
 وروى بشر بن بكر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، قال: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن، قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء، فذكر مثله،
 وروى محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص هذا الخبر بمعناه، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص هذا الخبر بمعناه، وزاد فيه، فقال: "يا معشر قريش والذي نفسي بيده لقد أرسلني ربي إليكم بالذبح".
ورواه هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص بمعنى حديث يحيى بن أبي كثير وحديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن عبد الله بن عمرو.

حدثنا عبد الله، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا محمد بن العلاء وعثمان بن أبي شيبة: أن محمد بن أبي عبيدة، حدثهم عن أبيه، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس، قال:
لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى غشي عليه، فقام أبو بكر، فقال: "ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم" فقالوا: هذا ابن أبي قحافة المجنون
[باب المجاهرون بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به] 👈
↚  

[المجاهرون بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به]

قال أبو عمر رضي الله عنه: وكان المجاهرون بالظلم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل من آمن به :
من بني هاشم: عمه أبا لهب وابن عمه أبا سفيان بن الحارث.
ومن بني عبد شمس: عتبة وشيبة ابني ربيعة، وعقبة بن أبي معيط، وأبا سفيان بن حرب، وابنه حنظلة، والحكم بن أبي العاص بن أمية، ومعاوية بن العاص بن أمية.
ومن بني عبد الدار: النضر بن الحارث.
ومن بني أسد بن عبد العزى: الأسود بن المطلب، وابنه زمعة، وأبا البختري العاصي بن هشام.
ومن بني زهرة: الأسود بن عبد يغوث الزهري
ومن بني مخزوم: أبا جهل بن هشام، وأخاه العاصي بن هشام، وعمهما الوليد بن المغيرة، وابنه أبا قيس بن الوليد بن المغيرة، وابن عمه قيس بن الفاكه بن المغيرة، وزهير بن أبي أمية بن المغيرة أخا أم سلمة، وأخاه عبد الله بن أبي أمية، والأسود بن عبد الأسد أخا أبي سلمة، وصيفي بن السائب.
ومن بني سهم: العاص بن وائل، وابنه عمرو بن العاص، وابن عمه الحارث بن قيس بن عدي، ومنبها ونبيها ابني الحجاج.
ومن بني جمح: أمية وأبيا ابني خلف بن وهب بن حذافة بن جمح السهمي، وأنيس بن معير أخا أبي محذورة، والحارث بن الطلاطلة الخزاعي.
وعدي بن الحمراء الثقفي.
فهؤلاء كانوا أشد على المؤمنين مثابرة بالأذى، ومعهم سائر قريش، فمنهم من يعذبون من لا منعة له ولا جوار من قومه، ومنهم من يؤذون.
 ولقي المسلمون من كفار قريش وحلفائهم من العذاب والأذى والبلاء عظيما، ورزقهم الله من الصبر على ذلك عظيما ليدخر لهم ذلك في الآخرة ويرفع به درجاتهم في الجنة، والإسلام في كل ذلك يفشو ويظهر في الرجال والنساء.
وأسلم الوليد بن الوليد بن المغيرة، وسلمة بن هشام أخو أبي جهل، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وجماعة، أراد الله هداهم.

وأسرف بنو جمح على بلال بالأذى والعذاب، فاشتراه أبو بكر الصديق منهم، واشترى أمه حمامة، فأعتقهما. وأعتق عامر بن فهيرة، وأعتق خمسا من النساء: أم عبيس، وزنيرة، والنهدية وابنتها، وجارية لبني عدي بن كعب كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يعذبها على الإسلام قبل أن يسلم.
وروى أن أبا قحافة قال لابنه أبي بكر: يا بني أراك تعتق قوما ضعفاء، فلو أعتقت قوما جلداء يمنعونك. فقال: يا أبت إني أريد ما أريد، فقيل إن فيه نزلت: {وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى ... } إلى آخر السورة.

حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا يحيى بن خلف: قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: {أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى} قال: أبو جهل ينهى محمدا صلى الله عليه وسلم. {فليدع ناديه} : أهل مجلسه. {سندع الزبانية}  قال: الملائكة.
حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا سليمان بن حبان، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
صلى النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو جهل، فقال: ألم أنهك عن هذا؟
فانصرف إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فزجره، فقال: يهددني محمد وقد علم أن ما بها رجل أكثر ناديا مني، فأنزل الله عز وجل: {فليدع ناديه، سندع الزبانية} .
قال ابن عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته الملائكة والعذاب.

[مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه] 👈


[مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعوثه] 

(1)غزوة ودان  ويقال لها غزوة الأبواء

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيا بالمدينة إلى الله ومعلما مما علمه الله باقي شهر ربيع الأول الشهر الذي قدم فيه المدينة وباقي العام كله إلى صفر من سنة اثنتين من الهجرة،
ثم خرج غازيا في صفر المؤرخ، واستعمل على المدينة سعد بن عبادة، حتى بلغ ودان. فوادع بني ضمرة بن عبد مناة بن كنانة، وعقد ذلك معه سيدهم مخشي بن عمرو. ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا. وهي أول غزوة غزاها بنفسه صلى الله عليه وسلم.

(2) باب بعث حمزة وبعث عبيدة 

ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأبواء أقام بالمدينة بقية صفر وربيع الأول وصدرا من ربيع الآخر. وفي هذه المدة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه حمزة بن عبد المطلب في ثلاثين راكبا من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، إلى سيف البحر من ناحية العيص، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب من كفار أهل مكة، فحجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني. وتوادع الفريقان على يديه، فلم يكن بينهما قتال.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المدة أيضا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف في ستين راكبا من المهاجرين، أو ثمانين، ليس فيهم من الأنصار أحد، فنهض حتى بلغ أحياء وهي ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة. فتلقى بها جمعا من قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل: كان عليهم مكرز بن أبي حفص.
فلم يكن بينهم قتال. إلا أن سعد بن أبي وقاص وكان في ذلك البعث رمى بسهم فكان أول سهم رمي به في سبيل الله. وفر من الكفار يومئذ إلى المسلمين المقداد بن عمرو، وعقبة بن غزوان، وكانا قديمي الإسلام إلا أنهما لم يجدا السبيل إلى اللحاق بالنبي عليه السلام إلى يومئذ.

واختلف أهل السير في أي البعثين كان أول: أبعث حمزة أو بعث عبيدة، فقال ابن إسحاق: أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأول سرية بعثها عبيدة بن الحارث.
 قال ابن إسحاق: وبعض الناس يزعمون أن راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال المدائني: أول سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب في ربيع الأول من سنة اثنتين إلى سيف البحر من أرض جهينة.

فرض صوم رمضان

ثم فرض صوم رمضان سنة إحدى1 قبل صرف القبلة بعام.

(3) غزوة بواط 

ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ربيع الآخر إلى تمام عام من مقدمه المدينة، واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون، حتى بلغ بواط من ناحية رضوى. ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا.

(4) غزوة العشيرة 

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بقية ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى ثم خرج غازيا واستخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد. وأخذ على طريق إلى العشيرة، فأقام هنالك بقية جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة. ووادع فيها بني مدلج. ثم رجع إلى المدينة، ولم يلق حربا.

(5) غزوة بدر الأولى 

ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من العشيرة لم يقم بالمدينة إلا عشر ليال أو نحوها، حتى أغار كرز بن جابر الفهري على سرح المدينة. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى بلغ واديا يقال له: سفوان في ناحية بدر. وفاته كرز، فرجع إلى المدينة.

(6) بعث سعد بن أبي وقاص

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث في حين خروجه لطلب كرز بن جابر سعد بن أبي وقاص في ثمانية رهط من المهاجرين، فبلغ إلى الخرار. ثم رجع إلى المدينة ولم يلق حربا. وقيل إنما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب كرز بن جابر الفهري.

(7) بعث عبد الله بن جحش وسريته 

ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من طلب كرز بن جابر، وتعرف تلك الخرجة ببدر الأولى، أقام بالمدينة بقية جمادى الآخرة ورجبا. وبعث في رجب عبد الله بن جحش بن رئاب ومعه ثمانية رجال من المهاجرين، وهم: أبو حذيفة بن عتبة، وعكاشة بن محصن، وعتبة بن غزوان، وسهيل بن بيضاء الفهري، وسعد بن أبي وقاص، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله التميمي، وخالد بن البكير الليثي.
وكتب لعبد الله بن جحش كتابا وأمره أن لا ينظر فيه، ولا يستكره أحدا من أصحابه، وكان أميرهم. ففعل عبد الله بن جحش ما أمره به، فلما فتح الكتاب وقرأه وجد فيه:
"إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشا، وتعلم لنا من أخبارهم".
فلما قرأ الكتاب قال سمعا وطاعة. ثم أخبر أصحابه بذلك وأنه لا يستكره أحدا منهم وأنه ناهض لوجهه مع من طاوعه وأنه إن لم يطعه أحد مضى وحده، فمن أحب الشهادة فلينهض ومن كره الموت فليرجع.
 فقالوا: كلنا نرغب فيما ترغب، وما منا أحد إلا وهو سامع مطيع لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ونهضوا معه. فسلك على الحجاز. وشرد لسعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان جمل كانا يعتقبانه، فتخلفا في طلبه.
 ونفذ عبد الله بن حجش مع سائرهم لوجهه. حتى نزل بنخلة. فمرت بهم عير لقريش تحمل زبيبا وتجارة فيها عمرو بن الحضرمي واسم الحضرمي عبد الله بن عباد من الصدف، والصدف بطن من حضرموت -وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى بني المغيرة. فتشاور المسلمون وقالوا: نحن في آخر يوم من رجب الشهر الحرام، فإن نحن قتلناهم هتكنا حرمة الشهر الحرام، وإن تركناهم الليلة دخلوا الحرم. ثم اتفقوا على لقائهم. 
فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، وأسروا عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله. ثم قدموا بالعير والأسيرين. وقال لهم عبد الله بن جحش: اعزلوا مما غنمنا الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففعلوا. فكان أول خمس في الإسلام، ثم نزل القرآن: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} . فأقر الله ورسوله فعل عبد الله بن جحش في ذلك، ورضيه وسنه للأمة إلى يوم القيامة.
وهي أول غنيمة غنمت في الإسلام، وأول أسيرين، وعمرو بن الحضرمي أول قتيل. وأنكر رسول الله قتل عمرو بن الخضرمي في الشهر الحرام، فسقط في أيدي القوم، فأنزل الله عز وجل: {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} .
وقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء في الأسيرين، فأما عثمان بن عبد الله فمات بمكة كافرا، وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ببئر معونة. ورجع سعد وعتبة إلى المدينة سالمين.

صرف القبلة

وصرفت القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة في السنة الثانية على رأس ستة عشر شهرا، وقيل سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وذلك قبل بدر بشهرين. وقد ذكرنا الاختلاف في الصلاة بمكة قبل الهجرة هل كانت إلى الكعبة أو إلى بيت المقدس؟ والروايات بالوجهين في كتاب التمهيد وفي كتاب الاستذكار.
وروي أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بتحويل القبلة، فقام فصلى ركعتين إلى الكعبة.

غزوة بدر الثانية

وهي أعظم المشاهد فضلا لمن شهدها
 اقرأها على رابط المكتبة الشاملة الحديثة :

غزوة أحد 👈


(8) غزوة أحد 

فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد قدومه من بحران جمادى الآخرة ورجبا وشعبان ورمضان، فغزته كفار قريش في شوال سنة ثلاث، وقد استمدوا بحلفائهم والأحابيش من بني كنانة. وخرجوا بنسائهم لئلا يفروا عنهن. وقصدوا المدينة، فنزلوا قرب أحد على جبل على شفير الوادي بقناة مقابل المدينة.
فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه أن في سيفه ثلمة وأن بقرا له تذبح وأنه أدخل يده في درع حصينة. فتأولها أن نفرا من أصحابه يقتلون وأن رجلا من أهل بيته يصاب وأن الدرع الحصينة المدينة. فأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه أن لا يخرجوا إليهم وأن يتحصنوا بالمدينة فإن قربوا منها قاتلوهم على أفواه الأزقة. ووافق رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الرأي عبد الله بن أبي بن سلول، وأبَى أكثر الأنصار إلا الخروج إليهم ليكرم الله من شاء منهم بالشهادة. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عزيمتهم دخل بيته، فلبس لامته، وخرج، وذلك يوم الجمعة، فصلى على رجل من بني النجار مات ذلك اليوم يقال له مالك بن عمرو، وقيل: بل اسمه محرز بن عامر.
وندم قوم من الذين ألحوا في الخروج وقالوا: يا رسول الله إن شئت فارجع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل".
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة لمن بقي بالمدينة من المسلمين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو أحد انصرف عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس مغاضبا، إذ خولف رأيه، فاتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام، فذكرهم الله والرجوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا عليه، فسبّهم، ورجع عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ونهض رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسلمين، وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من يهود، فأبى عليهم. وسلك على حرة بن حارثة، وشق أموالهم حتى مشى على مال لمربع بن قيظي وكان ضرير البصر فقام يحثو التراب في وجوه المسلمين ويقول: إن كنت رسول الله فلا يحل لك أن تدخل حائطي وأكثر من القول. فابتدره أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه، فقال عليه السلام: "فهذا الأعمى أعمى القلب أعمى البصر". وضربه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل بقوسه فشجه في رأسه.
 ونفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره إلى أُحُد، ونهى الناس عن القتال حتى يأمرهم. وسرحت قريش الظهر والكراع في زروع المسلمين بقناة. 
وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال، وهو في سبعمائة، وقيل: إن المشركين كانوا ثلاثة آلاف فيهم مائتا فارس، وقيل: كان في المسلمين يومئذ خمسون فارسا. وكان رماة المسلمين خمسين رجلا. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبر أخا بني عمرو بن عوف وهو أخو خوات بن جبير، وعبد الله يومئذ معلم بثياب بيض،
 فرتبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف الجيش، وأمره بأن ينضح المشركين بالنبل لئلا يأتوا المسلمين من ورائهم. وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بين درعين، ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير أحد بني عبد الدار وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سمرة بن جندب الفزاري ورافع بن خديج ولكل واحد منهما خمس عشرة سنة. وكان رافع راميا.
ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وعرابة بن أوس وزيد بن أرقم وأبا سعيد الخدري، ثم أجازهم كلهم -عليه السلام- يوم الخندق. 
وقد قيل إن بعض هؤلاء إنما رده يوم بدر وأجازه يوم أحد. وإنما رد من لم يبلغ خمس عشرة سنة وأجاز من بلغها.
وجعلت قريش على ميمنتهم في الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتهم في الخيل عكرمة بن أبي جهل.
ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه إلى أبي دجانة الأنصاري سماك بن خرشة الساعدي وكان شجاعا يختال في الحرب. وكان أبو عامر المعروف بالراهب وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق واسمه عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة وهو والد حنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة -قد ترهب وتنسك في الجاهلية، فلما جاء الإسلام غلب عليه الشقاء، ففر عن المدينة إذ نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومبغضا فيه وخرج إلى مكة في جماعة من فتيان الأوس، وشهد يوم أحد مع الكفار، ووعد قريشا بانحراف قومه إليه، فكان أول من خرج للقاء المسلمين في عبدان أهل مكة والأحابيش،
 فلما نادى قومه وعرفهم بنفسه قالوا: لا أنعم الله بك عينا يا فاسق، فقال: لقد أصاب قومي بعدي شر، ثم قاتل المسلمين قتالا شديدا.
وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: أمت أمت. وأبلى يومئذ علي وحمزة وأبو دجانة وطلحة بلاء حسنا، وأبلى أنس بن النضرة يومئذ بلاء حسنا وكذلك جماعة من الأنصار أبلوا وأصيبوا يومئذ مقبلين غير مدبرين. 
وقاتل الناس قتالا شديدا ببصائر ثابتة، فانهزمت قريش، واستمرت الهزيمة عليهم، فلما رأى ذلك الرماة قالوا: قد هزم أعداء الله فما لقعودنا ها هنا معنى. فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بأن لا يزولوا فقالوا: قد انهزموا ولم يلتفتوا إلى قوله، وقاموا.
 ثم كرّ المشركون وولى المسلمون وثبت من أكرمه الله منهم بالشهادة. ووصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقاتل دونه مصعب بن عمير حتى قتل رضي الله عنه، وجُرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم وجزاه عن أمته بأفضل ما جزى به نبيا من أنبيائه عن صبره. وكان الذي تولى ذلك من النبي عليه السلام عمرو بن قمئة الليثي وعتبة بن أبي وقاص. وقد قيل إن عبد الله بن شهاب جد الفقيه محمد بن مسلم بن شهاب هو الذي شجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبهته. 
وأكبت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في حفرة كان أبو عامر الراهب قد حفرها مكيدة للمسلمين، فخر عليه السلام على جنبه، فأخذ علي بيده، واحتضنه طلحة حتى قام. ومَصّ مالك بن سنان -والد أبي سعيد الخدري- من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم الدم. ونشبت حلقتان من حلق المعفر في وجهه صلى الله عليه وسلم، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجراح وعضّ عليهما بثنيتيه، فسقطتا، وكان الهتم يزينه.
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية -حين قتل مصعب بن عمير- علي بن أبي طالب.
وصار رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت راية الأنصار. وشد حنظلة الغسيل بن أبي عامر على أبي سفيان بن حرب، فلما تمكن منه حمل شداد بن الأسود الليثي -وهو ابن شعوب- على حنظلة، فقتله وكان جنبا فغسلته الملائكة، أخبر بذلك جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبر رسول الله بذلك أصحابه، وقال: "كان حنظلة قد قام من امرأته جُنبا فغسلته الملائكة".
وقتل صاحب لواء المشركين، فسقط لواؤهم، فرفعته عمرة بنت علقمة الحارثية للمشركين فاجتمعوا إليه، وحملوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكر دونه نفر من الأنصار، قيل سبعة، وقيل عشرة، فقتلوا كلهم، وكان آخرهم عمار بن يزيد بن السكن أو زياد بن السكن. وقاتل يومئذ طلحة قتالا شديدا،
وقاتلت أم عمارة الأنصارية، وهي نسيبة بنت كعب قتالا شديدا، وضربت عمرو بن قمئة بالسيف ضربات فوقاه درعان كانتا عليه وضربها عمرو بالسيف فجرحها جرحا عظيما على عاتقها. 
وترس أبو دجانة بظهره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبل يقع فيه وهو لا يتحرك، وحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص: "ارم فداك أبي وأمي".
 وأصيبت يومئذ عين قتادة بن النعمان الظفري فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعينه على وجنته، فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وغمزها فكانت أجمل عينيه وأصحهما.
وانتهى أنس بن النضر، وهو عم أنس بن مالك، يومئذ إلى جماعة من الصحابة قد ألقوا بأيديهم، فقال لهم : ما يجلسكم؟
قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، 
فقال لهم: ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم استقبل الناس، ولقي سعد بن معاذ فقال له: يا سعد والله إني لأجد ريح الجنة من قبل أحد، فقاتل حتى قتل، رضي الله عنه، وجد به أزيد من سبعين جرحا من بين ضربة وطعنة ورمية فما عرفته إلا أخته ببنانه، ميزته، 
وجرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف نحو عشرين جراحة بعضها في رجله، فعرج منها -رحمه الله- إلى أن مات.

وأول من ميز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الجولة كعب بن مالك الشاعر، فنادى بأعلى صوته: يا معشر المسلمين أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنصت.
 فلما عرفه المسلمون مالوا إليه وصاروا حوله ونهضوا معه نحو الشعب، فيهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة والزبير والحارث بن الصمة الأنصاري وجماعة من الأنصار. فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه أُبَيّ بن خلف الجمحي، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، ثم طعنه بها في عنقه، فكرّ أُبَيّ منهزما، فقال له المشركون: والله ما لك من بأس، فقال: والله لو بزق علي لقتلني، أليس قد قال: "بل أنا أقتله". وكان قد أوعد رسول الله صلى الله عليه وسلم القتل بمكة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتلك"، فمات عدو الله من ضربة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرجعه إلى مكة بموضع يقال له: سرف.
وملأ علي درقته من ماء المهراس وأتى به رسول الله ليشربه، فوجد فيه رائحة، فعافه وغسل به من الدم وجهه، ونهض إلى صخرة من الجبل ليعلوها، وكان عليه درعان وكان قد بدن، فلم يقدر أن يعلوها، فجلس له طلحة، وصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهره، ثم استقل به طلحة حتى استوى على الصخرة. وحانت الصلاة، فصلى جالسا والمسلمون وراءه قعودا.

روى سفيان الثوري ومعمر بن كراع عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جده، عن سعد بن أبي وقاص، قال: رأيت عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن شماله رجلين عليهما ثياب بيض يوم أحد لم أرهما قبل ولا بعد وانهزم قوم من المسلمين يومئذ، منهم عثمان بن عفان، فعفا الله عنهم ونزل فيهم: {إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ... } الآية ،
وكان الحسيل بن جابر العبسي -وهو اليمان والد حذيفة بن اليمان- وثابت بن وقش شيخين كبيرين قد جعلا في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه: ما بقي من أعمارنا؟! فلو أخذنا سيوفنا ولحقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا الشهادة. وفعلا ذلك، فدخلا في جملة المسلمين. فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما الحسيل فظنه المسلمون من المشركين فقتلوه خطأ، وقيل إن الذي قتله عتبة بن مسعود. وكان حذيفة يصيح والمسلمون قد علوا أباه: أبي أبي! ثم تصدق بديته على المسلمين.
وكان مخيريق أحد بني ثعلبة بن الفطيون من اليهود قد دعا اليهود إلى نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم: والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم حق، فقالوا له: إن اليوم السبت، فقال: لا سبت لكم. وأخذ سلاحه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل معه حتى قتل، وأوصى أن ماله لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال إن بعض صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة من مال مخيريق.

وكان الحارث بن سويد بن الصامت منافقا لم ينصرف مع عبد الله بن أبي في حين انصرافه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في جماعته عن غزاة أحد، ونهض مع المسلمين، فلما التقى المسلمون والمشركون بأحد عدا علي المجذر بن ذياد البلوي وعلى قيس بن زيد أحد بني ضبيعة، فقتلهما وفر إلى الكفار -وكان المجذر قد قتل في الجاهلية سويد بن الصامت والد الحارث المذكور في بعض حروب الأوس والخزرج- ثم لحق الحارث بن سويد مع الكفار بمكة، فأقام هناك ما شاء الله، ثم حينه الله فانصرف إلى المدينة إلى قومه.
 وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء، نزل جبريل عليه السلام، فأخبره أن الحارث بن سويد قد قدم فانهض إليه، واقتص منه لمن قتله من المسلمين غدرا يوم أحد. فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء في وقت لم يكن يأتيهم فيه، فخرج إليه الأنصار أهل قباء في جماعتهم وفي جملتهم الحارث بن سويد وعليه ثوب مورس فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عويم بن ساعدة، فضرب عنقه وقال الحارث: لم يا رسول الله؟
 فقال: "بقتلك المجذر بن ذياد وقيس بن زيد". فما راجعه بكلمة وقدمه عويمر، فضرب عنقه.
 ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينزل عندهم.

وكان عمرو بن ثابت بن وقش من بني عبد الأشهل يعرف بالأصيرم يأبى الإسلام. فلما كان يوم أحد قذف الله الإسلام في قلبه للذي أراد من السعادة به. فأسلم وأخذ سيفه ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقاتل حتى أثبت بالجراح ولم يعلم أحد بأمره. ولما انجلت الحرب طاف بنو عبد الأشهل في القتلى يتلمسون قتلاهم، فوجدوا الأصيرم وبه رمق لطيف، فقالوا: والله إن هذا الأصيرم ما جاء به؟ لقد تركناه وإنه لمنكر لهذا الأمر. ثم سألوه: يا عمرو ما الذي جاء بك إلى هذا المشهد؟ أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام؟
فقال: بل رغبة في الإسلام، آمنت بالله ورسوله، ثم قاتلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصابني ما ترون. فمات من وقته، فذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هو من أهل الجنة". ولم يصل صلاة قط.

وكان في بني ظفر رجل لا يدرى ممن هو يقال له قزمان أبلى يوم أحد بلاء شديدا، وقتل يومئذ سبعة من وجوه المشركين، وأثبت جراحا، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمره، فقال: "هو من أهل النار"،
 وقيل لقزمان: أبشر بالجنة، فقال: بماذا؟ وما قاتلت إلا عن أحساب قومي. ثم لما اشتد عليه ألم الجراح أخرج سهما من كنانته، فقطع به بعض عروقه، فجرى دمه حتى مات، ومثل بقتلى المسلمين. 
وأخذ الناس ينقلون قتلاهم بعد انصراف قريش، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفنوا في مضاجعهم بدمائهم وثيابهم لا يغسلون 

ذكر من استشهد من المهاجرين يوم أحد

حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عن حمزة، قتله وحشي بن حرب مولى طعيمة بن عدي بن نوفل، وقيل: مولى جبير بن مطعم بن عدي، وأعتقه مولاه لقتله حمزة. وكان وحشي حبشيا يرمي بالحربة رمي الحبشة ثم أسلم، وقتل بتلك الحربة مسيلمة الكذاب يوم اليمامة.
وعبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي حليف بني عبد شمس وهو ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن مع حمزة في قبر واحد. وقد ذكرنا خبره عند ذكره في كتاب الصحابة. ويعرف بالمجدع في الله لأنه تمنى ذلك قبل الدخول في القتال يوم أحد فقتل وجدع أنفه وأذنه وجعلا في خيط.
ومصعب بن عمير قتله ابن قمئة الليثي. وشماس بن عثمان واسمه عثمان بن عثمان. وشماس لقب أربعة من المهاجرين.
تسمية من استشهد  من الأنصار يوم أحد
استشهد يومئذ من الأوس ثم من بني عبد الأشهل: عمرو بن معاذ أخو سعد بن معاذ، والحارث بن أوس بن معاذ ابن أخي سعد بن معاذ، والحارث بن أنس بن رافع، وعمارة بن زياد بن السكن. وسلمة وعمرو ابنا ثابت بن وقش، وأبوهما ثابت بن وقش، وأخوه رفاعة بن وقش، وصيفي بن قيظي، وخباب بن قيظي، وعباد بن سهل، واليمان بن جابر والد حذيفة بن اليمان واسمه حسيل حليف لهم من عبس، وعبيد بن التيهان، وحبيب بن زيد، وإياس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن زعوراء بن جشم بن عبد الأشهل.
ومن بني ظفر: زيد بن حاطب بن أمية بن رافع.
ومن بني عمرو بن عوف ثم من بني ضبيعة بن زيد: أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن يزيد، وحنظلة الغسيل بن أبي عامر الراهب بن صيفي بن النعمان.
ومن بني عبيد بن زيد: أنيس بن قتادة.
ومن بني ثعلبة بن عمرو بن عوف: أبو حبة بن عمرو بن ثابت وهو أخو سعد بن خيثمة لأمه، وعبد الله بن جبير بن النعمان أمير الرماة.
ومن بني السلم بن امريء القيس بن مالك بن الأوس: خيثمة والد سعد بن خيثمة. ومن حلفائهم من بني العجلان: عبد الله بن سلمة.
ومن بني معاوية بن مالك: سبيع بن حاطب بن الحارث، ومالك بن أوس حليف لهم.
ومن بني خطمة واسم خطمة عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس: عمير بن عدي ولم يكن يومئذ في بني خطمة مسلم غيره في قول بعضهم. وقد قيل إن الحارث بن عدي بن خرشة بن أمية بن عامر بن خطمة ممن استشهد يومئذ.
واستشهد يوم أحد من الخزرج ثم من بني النجار: عمرو بن قيس بن زيد بن سواد، وابنه قيس بن عمرو، وثابت بن عمرو بن زيد، وعامر بن مخلد، وأبوه هبيرة بن الحارث بن علقمة، وعمرو بن مطرف، وإياس بن عدي، وأوس بن ثابت أخو حسان بن ثابت وهو والد شداد بن أوس، وأنس بن النضر بن ضمضم عم أنس بن مالك، وقيس بن مخلد من بني مازن بن النجار، وكيسان عبد لهم.
ومن بني الحارث بن الخزرج: خارجة بن زيد أبي زهير، وسعد بن الربيع بن عمرو بن أبي زهير ودفنا في قبر واحد، وأوس بن الأرقم بن زيد بن قيس أخو زيد بن أرقم.
ومن بني الأبجر وهم بنو خدرة: مالك بن سنان والد أبي سعيد الخدري، وسعيد بن سويد بن قيس بن عامر، وعتبة بن ربيع بن رافع.
ومن بني ساعدة بن كعب بن الخزرج: ثعلبة بن سعد بن مالك، وثقف بن فروة بن البدن، وعبد الله بن عمرو بن وهب بن ثعلبة، وضمرة حليف لهم من جهينة.
ومن بني عوف بن الخزرج ثم من بني سالم: عمرو بن إياس، ونوفل بن عبد الله، وعبادة بن الخشخاش، والعباس بن عبادة بن نضلة، والنعمان بن مالك بن ثعلبة، والمجذر بن ذياد البلوي حليف لهم. ودفن النعمان والمجذر وعبادة في قبر واحد. ومن بني سواد بن مالك: مالك بن إياس.
ومن بني سلمة: عبد الله بن عمرو بن حرام اصطبح الخمر ذلك اليوم ثم قتل آخر النهار شهيدا ثم نزل تحريم الخمر بعد، وعمرو بن الجموح بن زيد بن حرام دفنا في قبر واحد كان صهرين وصديقين متآخيين، وابنه خلاد بن عمرو بن الجموح، وأبو أسيرة مولى عمرو بن الجموح.
ومن بني سواد بن غنم: سليم بن عمرو بن حديدة، ومولاه عنترة، وسهل بن قيس بن أبي كعب.
ومن بني زريق بن عامر: ذكوان بن عبد قيس، وعبيد بن المعلى بن لوذان.
وجميعهم سبعون رجلا، واختلف في صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهداء أحد ولم يختلف عنه في أنه أمر أن يدفنوا بثيابهم ودمائهم ولم يغسلوا.
غزوة حمراء الأسد 👈

(9) غزوة  حمراء الأسد

وكانت وقعة أحد يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثالثة من الهجرة. فلما كان من الغد يوم الأحد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في إثر العدو، وعهد أن لا يخرج معه إلا من حضر المعركة، فاستأذنه جابر بن عبد الله في أن يفسح له في الخروج معه، ففعل وكان أبوه عبد الله بن عمرو بن حرام ممن استشهد يوم أحد في المعركة.
فخرج المسلمون على ما بهم من الجهد والقرح، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو، حتى بلغ موضعا يدعى حمراء الأسد على رأس ثمانية أميال من المدينة فأقام به يوم الإثنين، والثلاثاء، والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة. قال ابن إسحاق: وإنما خرج بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو وليظنوا أن بهم قوة وأن الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.
وكان معبد بن أبي معبد الخزاعي قد رأى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى حمراء الأسد، ولقي أبا سفيان وكفار قريش بالروحاء، فأخبرهم بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبهم، ففت ذلك في أعضاد قريش، وقد كانوا أرادوا الرجوع إلى المدينة، فكسرهم خروجه صلى الله عليه وسلم، فتمادوا إلى مكة.
وظفر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خروجه بمعاوية بن المغيرة بن العاص بن أمية، فأمر بضرب عنقه صبرا، وهو والد عائشة أم عبد الملك بن مروان.

(10) بعث  الرجيع

وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر صفر وهو آخر السنة الثالثة من الهجرة نفر من عضل والقارة وهم بنو الهون بن خزيمة بن مدركة، فذكروا له أنهم قد أسلموا ورغبوا أن يبعث معهم نفرا من المسلمين يعلمونهم القرآن ويفقهونهم في الدين.
فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم ستة رجال: مرثد بن أبي مرثد الغنوي، وخالد بن البكير الليثي، وعاصم بن ثابت بن أبي الأفلح، وخبيب بن عدي وهما من بني عمرو بن عوف، وزيد بن الدثنة، وعبد الله بن طارق حليف بني ظفر، وأمر عليهم مرثد بن أبي مرثد.
فنهضوا مع القوم حتى إذا صاروا بالرجيع وهو ماء لهذيل بناحية الحجاز استصرخوا عليهم هذيلا، وغدروا بهم. فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا الرجال قد غشوهم وبأيديهم السيوف. فأخذ المسلمون سيوفهم ليقاتلوهم، فأمنوهم، وأخبروهم أنهم لا أرب لهم في قتلهم وإنما يريدون أن يصيبوا بهم فداء من أهل مكة.
فأما مرثد بن أبي مرثد وعاصم بن ثابت وخالد بن البكير فأبوا أن يقبلوا منهم قولهم ذلك، وقالوا: والله لا قبلنا لمشرك عهدا أبدا، وقاتلوا حتى قتلوا، رحمة الله عليهم. وكان عاصم بن ثابت قد قتل يوم أحد فتيين7 من بني عبد الدار أخوين أمهما سلافة بنت سعد بن شهيد، فنذرت إن الله أمكنها من رأس عاصم لتشربن في قحفه1 الخمر. فرامت بنو هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة، فأرسل الله عز وجل دونه الدبر فحمته، فقالوا إن الدبر سيذهب في الليل، فإذا جاء الليل أخذناه. فلما جاء الليل أرسل الله عز وجل سيلا لم ير مثله، فحمله، ولم يصلوا إلى جثته ولا إلى رأسه. وكان قد نذر أن يمس مشركا أبدا. فأبر الله عز وجل قسمه، ولم يروه، ولا وصلوا إلى شيء منه، ولا عرفوا له مسقطا. وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فأعطوا بأيديهم، فأسروهم وخرجوا بهم إلى مكة. فلما صاروا بمر الظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القران، ثم أخذ سيفه، واستأخر عنه القوم، ورموه بالحجارة حتى قتلوه، فقبره بمر الظهران.
وحملوا خبيب بن عدي وزيد بن الدثنة فباعوهما بمكة. وقد ذكرنا خبر خبيب وما لقي بمكة عند ذكر اسمه في كتاب الصحابة6، وصلب خبيب -رحمه الله- بالتنعيم، وهو القائل حين قدم ليصلب:
ولست أبالي حين أقتل مسلما ... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو ممزع
في أبيات قد ذكرتها عند ذكره في كتاب الصحابة. وهو أول من سن الركعتين عند القتل. وقال له أبو سفيان بن حرب: أيسرك يا خبيب أن محمدا عندنا بمكة تضرب عنقه وأنك سالم في أهلك؟
 فقال: والله ما يسرني أني سالم في أهلي وأن يصيب محمدا شوكة تؤذيه. وابتاع زيد بن الدثنة صفوان بن أمية، فقتله بأبيه.
غزوة خيبر 👈

(11) غزوة  خيبر

وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد رجوعه من الحديبية ذا الحجة وبعض المحرم وخرج في بقية منه غازيا إلى خيبر، ولم يبق من السنة السادسة من الهجرة إلا شهر وأيام، واستخلف على المدينة نميلة بن عبد الله الليثي. وذكر موسى بن عقبة، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة منصرفه من الحديبية مكث عشرين يوما أو قريبا منها ثم خرج غازيا إلى خيبر، وكان الله عز وجل وعده إياها وهو بالحديبية.
قال أبو عمر: قال الله عز وجل في أهل الحديبية: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا، ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما} . فلم يختلف العلماء في أنها البيعة بالحديبية. 
قال ابن قتيبة وقتادة وعكرمة وغيرهم: كانت الشجرة سمرة كانت الحديبية. وعلم ما في قلوبهم من الرضا بأمر البيعة على أن لا يفروا واطمأنت بذلك نفوسهم. {وأثابهم فتحا قريبا} : خيبر، ووعدهم المغانم فيها {ومغانم كثيرة يأخذونها} . وقد روي عن ابن عباس ومجاهد في قوله: {وعدكم الله مغانم كثيرة} أنها المغانم التي تكون إلى يوم القيامة. وقالوا في قوله:
{وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها} : فارس والروم وما افتتحوا إلى اليوم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى. قال: وقوله: {فتحا قريبا} : خيبر.

رجع الخبر إلى ابن إسحاق، قال: فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر دفع رايته، وكانت بيضاء، إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأخذ طريق الصهباء إلى وادي الرجيع، فنزل بين خيبر وغطفان لئلا يمدوهم، لأنه بلغه أن غطفان تريد إمداد يهود خيبر. ولما خرجوا لإمدادهم اختلفت كلمتهم. وأسمعهم الله عز وجل حسا من ورائهم وهدا راعهم وأفزعهم فانصرفوا إلى ديارهم، فأقاموا بها. وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أشرف على خيبر مع الفجر، وعمالهم غادون بمساحيهم ومكاتلهم. فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش نادوا: محمد والخميس معه. وأدبروا هرابا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين". 
وتحصنت يهود في حصونهم وكانت حصونا كثيرة، فكان أول حصن افتتحوه حصنا يسمى "ناعما" وعنده قتل محمود بن مسلمة أخو محمد بن مسلمة ألقيت عليه رحى فشدخته، رحمه الله، ثم حصنا يدعى "القموص" وهو حصن بني أبي الحقيق، ومن سبايا ذلك الحصن كانت صفية بنت حيي بن أخطب -وكانت تحت كنانة بن الربيع بن أبي الحقيق- أصابها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبنتي عم لها، فوهب صفية لدحية بن خليفة الكلبي ثم ابتاعها [منه]  بسبعة أرؤس، ثم أردفها خلفه، وألقى عليها رداءه، فعلم أصحابه أنه اصطفاها لنفسه، وجعلها عند أم سليم حتى اعتدت وأسلمت، ثم أعتقها وتزوجها، وجعل عتقها صداقها. وهذه مسألة اختلف الفقهاء فيها فمنهم من جعل ذلك خصوصا له كما خص بالموهوبة، ومنهم من جعل ذلك سنة لمن شاء من أمته.
ثم فتح حصن الصعب بن معاذ ، ولم يكن في حصون خيبر أكثر طعاما وودكا منه. ووقف إلى بعض حصونهم فامتنع عليهم فتحه ولقوا فيه شدة، فأعطى رايته أبا بكر الصديق فنهض بها وقاتل واجتهد ولم يفتح عليه،
ثم أعطى الراية عمر فقاتل ثم رجع ولم يفتح له وقد جهد.
 فحينئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ليس بفرار، يفتح الله عز وجل على يديه". فلما أصبح دعا عليا، وهو أرمد، فتفل في عينيه، ثم قال: "خذ الراية فامض بها حتى يفتح الله بها عليك". 

ذكر هذا الخبر ابن إسحاق. قال: قال: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة عن أبيه سفيان عن سلمة بن الأكوع، وذكر من حديث أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: 
خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم برايته إلى حصن من حصون خيبر، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله وقاتلهم، فضربه رجل من يهود، فألقى ترسه من يده، فتناول عليّ بابا كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده، وهو يقاتل، حتى فتح الله عليه، ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر معي سيفه وأنا ثامنهم نجتهد على أن يقلب ذلك الباب فما نقلبه.
وذكر ابن إسحاق من رواية يونس بن بكير وزياد وإبراهيم بن سعد والأموي عنه عن عبد الله بن سهل، قال أخو بني حارثة، عن جابر بن عبد الله. وبعضهم يرويه عن ابن إسحاق عن عبد الله بن سهل، عن جابر، ولم يشهد جابر خيبر:
أن محمد بن مسلمة هو الذي قتل مرحبا اليهودي بخيبر. قال ابن إسحاق: فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من لهذا؟ " يعني: مرحبا اليهودي، فقال محمد بن مسلمة: أنا له يا رسول الله أطلب الثأر، قتل أخي بالأمس. قال: "فقم إليه" فنهض إليه محمد بن مسلمة، فتقاتلا، وكانا يستتران بشجرة [فجعل أحدهما يلوذ بها من صاحبه، كلما لاذ بها منه اقتطع بسيفه ما دونه منها] حتى ذهبت أغصانها [وبرز كل واحد منهما لصاحبه، وحمل مرحب على محمد بن مسلمة فضربه، فاتقاه بالدرقة فوقع سيفه فيها فعضت به وأمسكته] وضربه محمد، فقتله. ثم انصرف. ثم برز أخو مرحب واسمه ياسر، فدعا إلى البراز، فخرج إليه الزبير.
 هذا ما ذكره ابن إسحاق في قتل مرحب اليهودي بخيبر. وخالفه غيره، فقال: بل قتله علي بن أبي طالب، وهو الصحيح عندنا.
حدثنا عبد الله بن محمد، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا أبو داود، [قال] : حدثنا هارون بن عبد الله، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا عوف، عن ميمون أبي عبد الله، عن عبد الله بن أبي بريدة، عن أبيه [أبي] بريدة الأسلمي:
 أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزل بحصن خيبر: "لأعطين اللواء غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" فلما كان من الغد تطاول لها أبو بكر وعمر، فدعا عليا، وهو أرمد، فتفل في عينيه، وأعطاه اللواء، ونهض معه الناس، فلقا أهل خيبر، فإذا مرحب بين أيديهم يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا السيوف أقبلت تلهب ... أطعن أحيانا وحينا أضرب
فاختلف هو وعلي ضربتين، فضربه علي على رأسه حتى عض السيف بأضراسه، وسمع أهل العسكر صوت ضربته، قال: فما تتام الناس حتى فتحوا لهم.
حدثنا سعيد بن نصر. قال: حدثنا قاسم بن أصبغ [قال] : حدثنا محمد بن وضاح [قال] : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة [قال] : حدثنا هاشم بن القاسم [قال] : حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حدثني إياس بن سلمة الأكوع، قال: أخبرني أبي، قال:
لما خرج عمي عامر بن سنان إلى خيبر بارز يوما مرحبا اليهودي، فقال مرحب:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب ... أطعن أحيانا وحينا أضرب
وقال عمي:
قد علمت خيبر أني عامر ... شاكي السلاح بطل مغاور
فاختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر، ورجع سيف [عامر] على مسافة فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه، 
قال سلمة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسلني إلى علي بن أبي طالب، وقال: "لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله" قال: فجئت به أقوده أرمد، فبصق النبي صلى الله عليه وسلم في عينيه، ثم أعطاه الراية، فخرج مرحب يخطر بسيفه، وقال:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
وقال عليّ رضي الله عنه:
أنا الذي سمتني أمي حيدره ... كليث غابات كريه المنظره
أوفيهم بالصاع كيل السندره
ففلق رأس مرحب بالسيف، وكان الفتح على يد عليّ.

قال ابن إسحاق: وآخر ما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم الوطيح والسلالم.
وقال موسى بن عقبة: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم [حصون خيبر بضع عشرة ليلة، وكان بعضها صلحا وأكثرها عنوة، ذكر ذلك عن ابن شهاب. وقال ابن إسحاق: قسم رسول الله أرض خيبر كلها لأنه غلب على جميعها عنوة. وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم] أهل خيبر في حصنهم الوطيح حتى إذا أيقنوا بالهلكة سألوه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم، ففعل.

[مقاسم خيبر وأموالها]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حاز الأموال كلها: الشق ونطاة والكتيبة وجميع حصونهم إلا ما كان من ذينك [الحصنين]  فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله يسألونه أن يسيرهم وأن يحقن لهم دماءهم ويحلوا له الأموال ففعل. وكان فيمن مشى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم في ذلك محيصة بن مسعود أخو بني حارثة. قال: فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله أن يعاملهم في الأموال على النصف، فعاملهم، وقال لهم: "على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم". فصالحه أهل فدك على مثل ذلك. وكانت خيبر فيئا بين المسلمين، وكانت فدك خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لم يوجوفوا عليها بخيل ولا ركاب.
قال أبو عمر:
هذا هو الصحيح في أرض خيبر أنها كانت عنوة كلها مغلوبا عليها بخلاف فدك وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم جميع أرضها على الغانمين لها الموجفين بالخيل والركاب، وهم أهل الحديبية. ولم يختلف العلماء [في] أن أرض خيبر مقسومة، وإنما اختلفوا هل تقسم الأرض إذا غنمت البلاد أو توقف؟
قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، خيبر، وأخرج الخمس مما قسم، ولم يقدر أهلها على عمارتها وعملها فأقر اليهود فيها على العمل في النخل والأرض، وقال لهم: "أقركم ما أقركم الله". ثم أذن الله له في مرضه الذي مات فيه بإخراجهم، فقال: "لا يبقين دينان بأرض العرب". وقال عليه السلام: "أخرجوا اليهود والنصارى من أرض الحجاز". ولم يكن بقي يومئذ بها مشرك وثنى -ولا بأرض اليمن أيضا- إلا أسلم في سنة تسع وسنة عشر. فلما بلغ عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في خلافته قوله عليه السلام: "أخرجوا اليهود والنصارى من أرض العرب" أجلاهم عنها، فأخذ المسلمون سهامهم في خيبر، فتصرفوا فيها تصرف المالكين.
قال ابن إسحاق: وكان المتولي للقسمة بخيبر جبار بن صخر الأنصاري من بني سلمة، وزيد بن ثابت من بني النجار، كانا حاسبين قاسمين. وكانت قسمة خيبر لأهل الحديبية: من حضر الوقيعة بخيبر ومن لم يحضرها، لأن الله أعطاهم ذلك في سفر الحديبية5. ولذلك قال موسى بن عقبة: لم يقسم من خيبر شيء إلا لمن شهد الحديبية، وروى ذلك عن جماعة من السلف.

قال ابن إسحاق: فوقع سهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وعاصم بن عدي وسهام بني سلمة وسهام بني حارثة وبني ساعدة وبني النجار وغفار وأسلم وجهينة واللفيف، كلها وقعت في الشق. 
ووقع سهم أبي بكر والزبير وسهام بني بياضة وبني الحارث بن الخزرج ومزينة بالنطاة، ولذكر سهامهم وأقسامهم موضع غير هذا. وكان عبيد بن أوس من بني حارثة قد اشترى يومئذ من سهام الناس سهاما كثيرة، فسمى يومئذ عبيد السهام، واشترى عمر بن الخطاب مائة سهم من سهام المسلمين، فهي صدقته الباقية إلى اليوم.
وأما فدك فلم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فكانت كبني النضير خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن العجب قول من قال إن الكتيبة لم تفتح عنوة وإنها من صدقات النبي عليه السلام إلا أن ينزل سهم النبي عليه السلام فيها مع المؤمنين وإلا فلا وجه لقوله غير هذا. وبالله التوفيق.

وفي غزوة خيبر حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية، لم تختلف الآثار في ذلك. 
واختلفت في حين تحريم المتعة بعد إباحتها. وقد ذكرنا الآثار بذلك في التمهيد. 
وفيها أهدت اليهودية زينب بن الحارث، امرأة سلام بن مشكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم [الشاة]  المصلية وسمت له منها الذراع وكان أحب اللحم إليه صلى الله عليه وسلم. فلما تناول الذراع ولاكها لفظها ورمى بها، وقال: "إن هذا العظم يخبرني أنه مسموم". ودعا باليهودية فقال: "ما حملك على هذا؟ " فقالت: أردت أن أعلم إن كنت نبيا، وعلمت أن الله إن أراد بقاءك أعلمك. 
فلم يقتلها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأكل من الشاة معه بشر بن البراء بن معرور، فمات من أكلته تلك.
وكان المسلمون يوم خيبر ألفا وأربعمائة راجل ومائتي فارس.

تسمية من استشهد من المسلمين يوم خيبر

ربيعة بن كثم بن سخبرة الأسدي من بني غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة، وثقف بن عمرو، ورفاعة بن مسروح. وكلهم من بني أسد، حلفاء لبني عبد شمس، ومسعود بن ربيعة القاري، من القارة، حليف لني زهرة.
وعبد الله بن الهبيب، ويقال ابن أهيب الليثي حليف لبني أسد بن عبد العزى بن قصي وابن أختهم.
وبشر بن البراء بن معرور من بني سلمة مات من أكله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاة المسمومة، وفضيل بن النعمان من بني سلمة أيضا ومسعود بن سعد بن قيس الأنصاري الزرقي.
ومحمود بن مسلمة بن خالد أخو محمد بن مسلمة من الأوس حليف لبني عبد الأشهل.
وأبو ضياح ثابت بن ثابت بن النعمان من بني عمرو بن عوف من أهل قباء، ومبشر بن عبد المنذر بن دينار من بني مالك بن عمرو بن عوف، والحارث بن حاطب، وأوس بن قتادة، وعروة بن مرة بن سراقة، وأوس بن الفاكه. وأنيف بن حبيب، وثابت بن واثلة بن طلحة، والأسود الراعي واسمه أسلم وكل هؤلاء من بني عمرو بني عوف.
ومن بني غفار: عمارة بن عقبة بن حارثة أصابه سهم فقتله.
ومن أسلم: عامر بن الأكوع.

تحميل كتاب الدرر في اختصار المغازي والسير 



تعليقات