تأملات: وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخَيْر

علم الغيب    

 

النفعُ والضّرُّ والغيب لله


قال تعالى (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) الأعراف 188 .
الله في ذاته عليم قدير ، والمخلوقات في ذاتها جاهلة ضعيفة ،
هذا هو الأصل وقاعدة الكون، ومفتاح كل مسألة واشكال.
ولولا أن الله قد أعلم مخلوقاته بعض العلم وظلت جاهلة على طبيعتها ما جاز أن يكلفها الله بشيء ،
ولولا أن جعل علم مخلوقاته والقدرة بقدر معين ومقيد، فكانا مطلقا وبلا حدود ما اجتمع اثنان من مخلوقاته ، فحاجة البعض للآخر هي سبب وجود الأسر والجماعات والمجتمعات .

معنى الغيب :

الغيب، وهو جميع ما غاب عن العيون أو القلوب ، سواء أكان في الماضي والحاضر والمستقبل .
وهي أحوال ما في الكون من أمم من ملائكة ونجوم وأجرام وافلاك وجن وانس وحيوان وطير ونبات وجبال وأنهار وبحار، وما يحدث لها من ميلاد وموت، وحركة وسكون .
وأكثر ما يراد بالغيب هو الآجال المقدرة ، مثل متى الساعة ؟ ومتى ينزل المطر ومقدار الأرزاق؟ وما سيكون في الأرحام ؟ وأعمار المخلوقات .

(قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ )

والله قدّر حدودا لخلقه في خلقه ، فلا يستطيع انس ولا جن ولا ولا دابة ولاغيرها ، في نفع أحد أو نفع نفسها ، أو ضر أحد،الا ما أذن الله فيه ويسر ،
لكن الله لمّا مَيّز بعض خلقه من قدرات وعلوم كالرسل من الملائكة والبشر، والأولياء والملوك ، افتتن الناس بهم ،
فأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ) ،
ومثلها في الحديث الشريف:
(واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك...)
كما ان الخلق لا تعلم الغيب إلا بقدر ما حدده الله ، فقال تعالى (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) آل عمران ، وقال (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) الجنّ .
أما الغيب المطلق فهو لله رب العالمين .

(وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ)

يخبر الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لو كان يعلم الغيب لعمل بحسب ما يأتي ولاستعد لكل شيء استعداد من يعلم قدر ما يستعد له،
وهذا لفظ عام في كل شيء،
لكن بعض الناس خصص هذا ، فقال ابن جريج ومجاهد: لو كنت أعلم أجلي لاستكثرت من العمل الصالح .
وقالت فرقة: أوقات النصر لتوخيتها،
وحكى مكي عن ابن عباس أن معنى لو كنت أعلم السنة المجدبة لأعددت لها من المخصبة.
وقال القاضي أبو محمد: وألفاظ الآية تعم هذا وغيره، ذكره ابن عطية في تفسيره .

وقال الرازي : اعلم أن القوم لما طالبوه بالإخبار عن الغيوب وطالبوه بإعطاء الأموال الكثيرة والدولة العظيمة ذكر أن قدرته قاصرة وعلمه قليل، وبين أن كل من كان عبدا كان كذلك والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليسا إلا لله تعالى،
فالعبد كيف يحصل له هذه القدرة، وهذا العلم ؟
والتقدير: ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من تحصيل الخير، ولاحترزت عن الشر حتى صرت بحيث لا يمسني سوء.
ولما لم يكن الأمر كذلك ظهر أن علم الغيب غير حاصل عندي، ولما بيّن بما سبق أنه لا يقدر إلا على ما أقدره الله عليه، ولا يعلم إلا ما أعطاه الله العلم به .اهــ
قلت : هذا في حق النبي رسول الله وحاله في جلب النفع ودفع الضر وعلم الغيب ، فما بالك بحال من دونه من البشر ؟

لطيفة في علم الغيب 

قلت ظاهر قوله (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ) يوحي بامكانية تغيير الغيب في عالم الشهادة ، سواء على يد الخلق كما ذكر هنا أو حين قال (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا ) الأحزاب 16 ،
أو على يد الخالق سبحانه وتعالى ،وهذا المعنى ذكرته في كتابي (تفسير الوضاح) عند قوله في سورة الرعد ( يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) 39
حيث قال ابن عباس : يدبر أمر السَّنَة، فيمحو ما يشاء،
إلا الشقاء والسعادة، والحياة والموت.
وفي رواية: { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } قال: كل شيء إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة فإنهما قد فرغ منهما.
وقال مجاهد: { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } إلا الحياة والموت، والشقاء والسعادة، فإنهما لا يتغيران.
وقال الأعمش، عن أبي وائل شَقِيق بن سلمة: إنه كان يكثر أن يدعو بهذا الدعاء: اللهم، إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه، واكتبنا سعداء، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب، رواه ابن جرير .
 وقال ابن كثير :ومعنى هذه الأقوال: أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها، ويثبت منها ما يشاء.


تعليقات